تراث غزة التاريخي بين منسيّ ومدمَّر

كان قطاع غزة موطنًا للعديد من الشعوب والحضارات القديمة ولكن بسبب الحروب والاحتلال والاضطرابات السياسية لم يُبْحَث إرث غَزَّة التاريخي ولم يُوَثَّق إلَّا قليلًا. صورة من: picture alliance / ZUMAPRESS.com | Ahmad Hasaballa Eine von palästinensischen Fotografen organisierte Tour zeigt unbekannte archäologische Stätten im Gazastreifen
كان قطاع غزة موطنًا للعديد من الشعوب والحضارات القديمة ولكن بسبب الحروب والاحتلال والاضطرابات السياسية لم يُبْحَث إرث غَزَّة التاريخي ولم يُوَثَّق إلَّا قليلًا. صورة من: picture alliance / ZUMAPRESS.com | Ahmad Hasaballa

لفتت حرب إسرائيل وحماس انتباه العالم إلى قطاع غزة ومعاناة سكانه ولكن غِنَى هذا القطاع الساحلي الصغير بالمواقع التاريخية غير معروف كثيرا. كارستِن باكايْزَر يسلط الضوء على آثار غزة التاريخية.

الكاتب، الكاتبة : Karsten Packeiser

المصريون القدماء والفرس كانوا في قطاع غزة وكذلك العرب وبالطبع الفلسطينيون المحفوفون بالأسرار وهو أرض كانت منذ القدم مركزًا مهمًا للثقافة الإنسانية ولكن بسبب الحروب والاحتلال والاضطرابات السياسية لم يُبْحَث إرث غَزَّة التاريخي ولم يُوَثَّق إلَّا قليلًا.

يعمل عالم الآثار الألماني فولفغانغ تسفيكِل المقيم في مدينة ماينتس الألمانية على تأليف كتاب حول جميع المواقع التاريخية المعروفة الموجودة في هذه المنطقة الصغيرة ولكنه بدأ يتساءل في هذه الأثناء ونظرًا إلى الهجمات العسكرية الإسرائيلية العنيفة إنْ كانت ستبقى في قطاع غزة على الإطلاق أية مواقع تاريخية حتى الانتهاء من طباعة كتابه هذا في صيف عام 2024.

عمل الأستاذ فولفغانغ تسفيكِل في تدريس علم آثار الكتاب المقدَّس في جامعة غوتِنبيرغ بمدينة ماينتس الألمانية وكثيرًا ما قادته على مرّ السنين العديدُ من رحلات البحث والتنقيب إلى إسرائيل. ولكنه لم يتمكَّن قط من زيارة قطاع غزة.

وفي هذا الصدد يقول: "نحن لا نعرف تقريبًا أي شيء مفيد من الناحية التاريخية عن غزة"، ومع ذلك فإنَّ غزة مذكورة في العهد القديم مثلًا في قصة شمشون وهو محارب من بني إسرائيل لا يمكن التغلب عليه تقريبًا ولكنه يقع أخيرًا في أيدي الأعداء الفلسطينيين الذين فقأوا عينيه واقتادوه إلى مدينتهم غزة وأذلوه.

 دير القديس هيلاريون يُفترض أنَّه يعود إلى عام 329 ميلادي ويعتبر بذلك أقدم مكان عبادة مسيحي في قطاع غزة. صورة من: Ahmed Zakot/SOPA Images via ZUMA Press Wire 29.11.2021 | picture alliance / ZUMAPRESS.com / Ahmed Zako Besucher an der Ausgrabungsstätte des St. Hilarion Klosters in Gaza
زوَّار فلسطينيون في موقع التنقيب عن بقايا دير القديس هيلاريون الذي يُفترض أنَّه يعود إلى عام 329 ميلادي ويعتبر بذلك أقدم مكان عبادة مسيحي في قطاع غزة. صورة من: Ahmed Zakot/SOPA Images via ZUMA Press Wire 29.11.2021 | picture alliance / ZUMAPRESS.com / Ahmed Zako

ملتقى للثقافات

وبحسب الرواية التوراتية فقد استجمع شمشون وللمرة الأخيرة كلَّ قوَّته الخارقة للطبيعة وهدم أعمدة هيكل الفلسطينيين العظيم. "وَقَالَ شَمْشُوْنُ لِتَمُتْ نَفْسِي مَعَ الْفِلِسْطِينِيّينَ. وَانْحَنى بِقُوّةٍ فَسَقَطَ الْبَيْتُ عَلى الْأقْطَابِ وَعَلى كُلِّ الشَّعْبِ الَّذي فِيْهِ فَكانَ الْمَوْتى الَّذيْنَ أَمَاتَهُمْ فِي مَوْتِهِ أَكْثَرَ مِنَ الَّذينَ أَمَاتَهُمْ فِي حَياتِهِ"، كما يرد في سفر القضاة (قض 16: 30).

أثبتت الأدلة التاريخية أنَّ غزة كانت واحدة من المدن الحضرية الفلسطينية الخمس، وفيها بقايا مستوطنة مهمة تقع في تل العجول ويعود تاريخها إلى العصر البرونزي، وأصبح ميناء غزة حتى قبل البدء بالتقويم الميلادي أهم ميناء على شرق البحر الأبيض المتوسط.

وفي عام 1997 اكتُشِفَت بقايا دير يعود تاريخه إلى بداية انتشار المسيحية ويقع حول قبر القديس هيلاريون في غزة وكان يأمل الفلسطينيون في إدراجه ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو. لقد كانت غزة في العصر الإسلامي -أي مع بداية العصور الوسطى- بمثابة عاصمة إدارية تُحكَم منها أجزاء كبيرة من فلسطين.

المحافظة على الآثار لا تحظى بالأولوية

لقد خطرت قبل ثمانية أعوام لعالم الآثار فولفغانغ تسفيكِل فكرة إعداد كتابه الذي جمع فيه كلَّ ما هو معروف عن المواقع التاريخية في قطاع غزة. وحول ذلك يقول: "جمعتُ ما مجموعه مائتين وثلاثين موقعًا". ويضيف أنَّه لا توجد تقريبًا أية معلومات مفصَّلة حول الكثير من هذه المواقع.

وبحسب فولفغانغ تسفيكِل فإنَّ المقال المفصَّل الوحيد حول تاريخ مدينة غزة الثقافي يعود إلى النمساوي جورج غات الذي أقام في ثمانينيات القرن التاسع عشر مركزًا لإرسالية تبشيرية كاثوليكية في غزة ووصف أحياء المدينة بمنازلها وآبارها. وبعد قيام البريطانيين ببعض أعمال التنقيب، لم يعد يحدث -وفقًا لفولفغانغ تسفيكِل- أي شيء تقريبًا خلال العقود التي كانت تخضع فيها غزة للسيادة المصرية.

وبحسب فولفغانغ تسفيكِل فقد أُجريت أثناء الاحتلال الإسرائيلي المزيد من أعمال الحفر والتنقيب السطحية في المواقع التاريخية داخل قطاع غزة ولكن نتائجها ظلت غير منشورة إلى حدّ كبير: "نحن لا نعرف حتى مكان وجود هذه الوثائق". وقد أدَّى تسليم السيطرة الإدارية إلى السلطة الفلسطينية واستيلاء حماس عليها بعد ذلك إلى جعل كلّ شيء أسوأ فقط.

لقد تعرَّضت في غزة العديد من المواقع الأثرية وكذلك بعض المباني الإسلامية المهمة من العصور الوسطى إلى الدمار خلال الحروب السابقة أو أُقيمت عليها مبانٍ جديدة. من المعروف أنَّ قطاع غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم ولذلك فإنَّ الحاجة الملحة إلى بناء المزيد من المساكن أجبرت الآثار في العادة إلى التراجع.

Here you can access external content. Click to view.

أعمال التنقيب والحفريات شبه منعدمة

ولم يتمكَّن خلال سنوات حكم حماس من الوصول إلى المنطقة سوى بعض الباحثين الأجانب ومن بينهم عالم الآثار الفرنسي رينيه إلتير الذي واصل عمله في التنقيب عن مقبرة تعود إلى العصر الروماني حتى شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 وقد ظلّ عالقًا في غزة طيلة أسابيع بعد بداية الحرب وقال للتلفزيون الفرنسي بعد عودته: "لدينا خوف كبير على المواقع الأثرية في غزة" وأضاف أنَّ الكثير قد تدمَّر بسبب القصف الإسرائيلي.

والأخبار الحالية الواردة من إسرائيل وقطاع غزة تجعل أيضًا عالم الآثار فولفغانغ تسفيكِل في مدينة ماينتس يشعر باليأس وحول ذلك يقول: "إنَّها تجعلني أجهش بالبكاء" ويضيف أنَّه يعلم طبعًا وبالنظر إلى حجم الموت ومعاناة الأهالي أنَّ الآثار بالذات ليست المشكلة الأهم بالنسبة للناس في هذه المنطقة المنكوبة بالأزمات.

وعالم الآثار فولفغانغ تسفيكِل - الذي عمل مع أكاديميين إسرائيليين وفلسطينيين - صار يجد صعوبة أكثر بكثير من ذي قبل في تصوُّره كيف سيكون شكل السلام في المنطقة بعد الأحداث الأخيرة. وعلى الرغم من ذلك فهو يخطط الآن لرحلته القادمة إلى إسرائيل في شهر نيسان/أبريل القادم.

 

 

كارستِن باكايْزَر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: وكالة الأنباء الإنجيلية / موقع قنطرة 2024

Qantara.de/ar