تصفية تهديدات الإسلام السياسي بتفكيك بنية التخلف

المفكر المغربي سعيد ناشيد. Der marokkanische Denker Said Nachid - Foto Privat
"الهويات القاتلة هي مرض عضال في أزمنتنا الحديثة. وهي وسيلة سياسية أو بالأحرى يجري تسييها بفعل أنظمة مستبدة وفاشية تحمل زوراً وبهتاناً الإسلام في إطار دعائي وشعاراتي لخدمة أغراضها الانتهازية والأيدولوجية"، وفق ما يقول المفكر المغربي سعيد ناشيد. صورة من: Privat

يرى سعيد ناشيد أن المفاهيم الرائجة حول الإسلام والشريعة هي من التيارات الأصولية وتعيق التحديث وتعكس أزمة تاريخية حضارية فكرية سياسة حكومية ومن الضروري الإصلاح السياسي والديني للخروج من هذا الانسداد التاريخي. حاوره كريم شفيق.

Von كريم شفيق

يرى المفكر المغربي سعيد ناشيد أن المفاهيم الرائجة حول الإسلام والشريعة هي من قِبَل التيارات الأصولية، وتعيق التحديث، وبينما تبعث بمقولات صادمة وتكفيرية تجاه الآخر والمختلفين إنما تعكس أزمة تاريخية على مستوى الحضارة والفكر كما على مستوى السياسة والدولة في ظل "بنية تخلف" تتحكم في مفاصل وبنى مؤسسات الحكم وأن التحديث والإصلاح السياسي والديني هما ضرورات وشروط للخروج من الانسداد التاريخي.

 

****************

 

إلى أيّ حدّ يعكس تنامي الأصوليات الدينية أزمة لدى العقل العربي وانسداد التاريخ؟ 

سعيد ناشيد: المعضلة لدى الإسلام السياسي هي أنّه يعكس أزمة مزدوجة. من جهة هناك فقر في موارده الثقافية والمعرفية تؤدي إلى رهانات خاسرة وتجعله يتحول إلى التشدد والتكفير ونبذ الآخر. فضلاً عن عدم مقدرته صياغة مقاربة سياسية عملية، فيوجه بوصلته إلى الخطاب الأخلاقي الديني المتشدد. فيما لا يملك هذا التيار التعاطي مع قيم المواطنية والمدنية بل إنَّه يبعث بصورة متوحشة من التراث في نسخته البدائية، ثم يسعى إلى مقاربتها العصرية عبر عصرنة المفاهيم القديمة والتقليدية. لذا نجد التيارات الإسلاموية المتشددة -على اختلاف مرجعياتها وتفاوتها- ترفض القانون وتسعى إلى تطبيق مبادئ "الولاء والبراء" والتي ترجع لفترة ما قبل التاريخ ونشوء الدولة وبطبيعة الحال القانون والحداثة والمدنية.

وحتماً يجري تهميش التشريع المدني والعلماني والدستور لصالح مجموعة قوانين تناسب التصحر الثقافي وشريعة الصحراء والبداوة والجمود المعرفي من خلال آليات عقابية لا تتناسب والتطور التاريخي والحضاري والحقوقي. فتبرز حالات ووقائع مثل قطع يد السارق أو رجم الزاني (تحدث في السعودية وإيران كما تطالب قوى إسلامية تطبيقها في بلدان أخرى) مع الأخذ في الاعتبار أن هذه القوانين العقابية القديمة لا تراعي الحريات الفردية والشخصية وكذا المساحات المتاحة والممكنة في الفضاء العام. وهذا الخلط والالتباس لديها يفاقم من وتيرة العنف.

أما عن انسداد التاريخ في الحضارة العربية والإسلامية فليس هناك أيّ شك من وجود دور له في صعود العنف والأصوليات. ويمكن القول إنَّ وهن الحضارة العربية من بين العوامل المؤثرة. فهي لم تعد تساهم بأي دور ثقافي وحضاري ووصل الحال لدرجة أن اللغة لم تعد قادرة على أن تكون حاملا معرفيا للعديد من المصطلحات التي باتت متداولة في حقول فلسفية وعلمية وطبية وتكنولوجية. ومن ثم نجد أنَّ الحوار والاتصال مع الآخر منقطع. كما أنَّ فهم العالم يبدو بحاجة إلى مجهود شاق. ويتعين النظر إلى أنَّ هذا المستوى العقلي يتسبب في رواج الصراعات الهوياتية، وتأبيد هذا الواقع المعتم والمنغلق على ذوات ملغمة بالكراهية والعدمية واشتهاء "الخلاص" بالمعنى الديني. فليس لديهم سوى تصورات أخروية عوضاً عن البدائل الممكنة للحياة وشروط أفضل للإنسانية والتعايش. وفي النهائة تتزايد حالات التجزئة على أساس طائفي ديني وتلاشي مساحة المشترك الإنساني. 

 

ما علاقة تفشي "الهويات القاتلة" بتعبير الروائي اللبناني الفرنسي أمين معلوف بفشل إدارة التنوع الثقافي والديني وغياب التمثيل السياسي وأزمة التنمية كما هو الحال في إيران مثلا؟

سعيد ناشيد: الهويات القاتلة -عزيزي، وأثمِّن هذا السؤال- هي مرض عضال في أزمنتنا الحديثة. وهي وسيلة سياسية أو بالأحرى يجري تسييها بفعل أنظمة مستبدة وفاشية تحمل زوراً وبهتاناً الإسلام في إطار دعائي وشعاراتي لخدمة أغراضها الانتهازية والأيدولوجية. في إيران ومن خلال أربعة عقود قُدمت نسخة شيعية خمينية أفقدت الإسلام والفقه الشيعي تنوعه، بل ضربت حركات الإصلاح في مقتل. وقام "آيات الله" في إيران بعد اعتلاء المناصب السياسية بالهيمنة على الحوزات الدينية فيما عمدوا إلى تهميش مختلف التيارات التي لا تتوافق مع الهوى السياسي مثل الشيرازيين وغيرهم. ورغم أنَّ الشيرازية من الشيعة الاثنى عشرية فإن الملاحقات الأمنية لا تتوقف عن استهدافهم كما حدث قبل سنوات قليلة مع ابن المرجع الشيعي آية الله صادق الشيرازي.

وتؤمن المرجعية الشيرازية بمبدأ "شورى الفقهاء" الذي يتناقض مع مبدأ "الولي الفقيه" الذي يحصر الحكم في شخص بعينه ويحوله إلى مستبد وحاكم بأمر الله. ويكاد لا يختلف هذا الصراع عن مماثله بين المبدأ الفقهي الحاكم في إيران ونقيضه في النجف بالعراق وكذا جبل عامل بلبنان. كلاهما يمثل المرجعية العربية التي تؤمن بولاية الأمة على نفسها. يتعين النظر إلى أنَّ الحوزات الدينية في قم ومشهد بإيران لديها اجتهادات متفاوتة ترفض ما جاء به الخميني وعلى سبيل المثال هناك مرجعيات مثل آية الله كمال الحيدري وآية الله حسين منتظري فضلاً عن علي شريعتي وعبد الكريم سروش يرفضون إلزام المرأة كرهاً وقسراً بالحجاب مع الاحتفاظ بإيمانهم بفرضيته. لكن الأمر يخضع لإرادة المرء المؤمن من دون وصاية إلزامية من الفقيه أو ممثلين عنه لتعميمه وفرضه على الآخرين. كما أنَّهم يرفضون إلزام المرأة الأجنبية بالحجاب من الأساس.

هذا التسييس والأدجلة -التي يمارسها على الدين "الولي لفقيه" لدعم نفوذه واستمراره في الحكم- تجعله يخفق في إدارة أي تنوع وترك هامش للحرية. فإلى جانب فرض نموذج تدين قسري -كنوع من تأكيد السلطة وتحقيق شرعيتها عبر الإذعان والخضوع- تحدث عمليات "التفريس". وهنا فرض المركزية الدينية الطائفية والقومية على حساب التنوع الهائل في البيئة الإيرانية على المستوي الإثني والقومي وكذا الديني والطائفي. وهذه البيئة تضحى متخمة بالعنف والأصولية والعداء بينما تراكم خطابات كراهية.

تشمل البيئة الإيرانية خريطة ديمغرافية وحضارية متنوعة فهناك المسلمون السنة والبهائيون واليهود والمندائيون بالإضافة إلى الأذريين الاتراك والعرب والبلوش والتركمان والأكراد. لكن نجد مناطق الأقليات تعاني من ندرة الموارد وتهميش يظهر في غياب التنمية والتمثيل السياسي والمجتمعي. وقد اصطدم ورسخ الخميني في مؤلفاته الموقف المتشدد والعنيف بل العدائي تجاه خريطة التنوع بإيران، وقد حولهم إلى خصوم في كتابه: "تحرير الوسيلة". فقال الخميني: "تؤخَذ الجزية من اليهود والنصارى -من أهل الكتاب- وممن لهم شبه كتاب وهم المجوس. ولا يقبل من غير الطوائف الثلاث إلا الإسلام أو القتل".

هل ساهم الاستخدام والتوظيف الديني البراغماتي لدى الأنظمة العربية في رواج وشرعنة الخطاب المؤدلج للدين لدى قوى الإسلام السياسي؟ 

سعيد ناشيد: بكل تأكيد، فقد ظل الدين مصدراً من مصادر الحكم ويجري الاعتماد عليه لحيازة السلطة والتأكيد على سلامة وشرعية القوانين والإجراءات السياسية والمجتمعية. نجد -مثلًا- الرئيس جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي: رغم ترويجه للاشتراكية بمفهومها العربي كما يذكر والتزامه خطاً يسارياً فإنه وقع تحت وطأة الاستثمار السياسي للدين في مواجهاته المختلفة. إذ قام لأول مرة بتدشين إذاعة للقرآن الكريم وبناء مدينة البعوث الإسلامية ثم إعادة هيكلة الأزهر للسيطرة على مصادر التأثير الديني في الفضاء العام وتحويله لأداة سياسية، بل قام بجمع القرآن مرتلاً ونشره بلغات عديدة كما فرض مادة الدين الإسلامي إجبارية على الطلبة بالمدارس وتوزعت في المكتبات بمصر وخارجها موسوعة جمال عبد الناصر للفقه. هذا العمران الديني كان يخدم تصورات سياسية تبعث بها السلطة. فالرمز الديني كان حاضراً وله موقع دفاعي لحساب السلطة المتهمة في التفريط في الدين وترويج "الشيوعية الملحدة"، كما حاول ذلك الإخوان أو قوى إقليمية مثل السعودية.

وفي مقابل ذلك هاجم عبد الناصر السعودية وعقَّب على انتقادات الملك فيصل بأن "الاشتراكية تعني المساواة التي ليس فيها أمير أو غفير (يقصد التناقض الطبقي). وواجه الإخوان والرئيس محمد نجيب في معركة عام 1954 التي تعرف بـ"أزمة الديمقراطية" من خلال الأزهر والذي أصدر فتوى تقر بأنَّ نجيب ليس وطنياً بناء على ما تقر به الشريعة وأنَّ جماعة الإخوان "عصابة" ولا تنتمي لخط الدعوة المحمدية والقرآن. كل ذلك تسبب في تسييس الدين الذي استفادت منه التيارات الإسلامية وتمكنت من تحويل المقولات لصالحها. ومثلما كان الدين في خدمة الاشتراكية تحول إلى خدمة الانفتاح الاقتصادي ثم سياسات الخصخصة في عهد الرئيس محمد أنور السادات. وبعد ذلك كان الفخ ذاته في فترة حكم الإخوان بمصر وقد استخدموا الخطاب الديني الرائج سياسياً في صيغته التكفيرية لشن العدوان على الخصوم.

An dieser Stelle finden Sie einen externen Inhalt. Sie können ihn sich mit einem Klick anzeigen lassen.

لماذا برأيك ما تزال المجتمعات العربية والإسلامية تقع تحت وطأة الجدل بين الشريعة والقانون ونجد من يرى بأنَّ الحاكمية لله وأنَّ القانون المدني هو تعطيل لقوانين إلهية وكف يد الله عن التشريع؟ 

سعيد ناشيد: هذا الجدل المحموم بين الشريعة والقانون مردُّهُ الأساسي عدم القطيعة مع المعرفة القديمة وبنيتها السياسية. نحن بحاجة إلى صناعة وعي مغاير وإيجاد حوامل طبيعيين له مع ضرورة الإصلاح السياسي في أنظمة الحكم التي تواصل التوفيق بشكل تلفيقي بين الشريعة والقانون كما بين العلم والدين والحداثة والإسلام. نحن لا نحتاج للتوفيق إنَّما بحاجة إلى إعادة موضعة كل منهما في الحيز المناسب وتحديد موقع ودور كل منهما في الفضاء العام. الوضع الراهن المتردي سياسياً ومجتمعياً ما زال قابلاً لفكرة الجهل المقدس الذي نعاني أزماته المتفاوتة وارتداداته العنيفة المتشنجة طوال الوقت.

إذ تحاول قوى متشددة وراديكالية أسلمة المجتمع ومن ثم طرح المدونة الإسلامية والشريعة في مجال التطبيق. ويمكن القول إنَّ هناك أزمة بنيوية في دول ما بعد الكولونيالية بالشرق الأوسط والتي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية حيث برزت في دساتيرها التأكيد على أنّ مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر في التشريع كما هو الحال في مصر ثم التأكيد على أنّ الإسلام هو دين الدولة الرسمي. تفكيك كل هذه الكتل المعقدة والصلبة بحاجة إلى دور هائل ومناخ ديمقراطي يسمح بحوار وانفتاح بين المجتمع المدني والنخبة والسلطة لتخطي معوقات التطور. 

برأيك، ما الشروط السياسية والمجتمعية التي تجعل الدولة الوطنية الحديثة تتخلص من تهديدات الإسلام السياسي؟ 

سعيد ناشيد: في تقديري أنَّ تهديدات الإسلام السياسي هي قضية مركبة، بينما تحتاج بداية إلى إنهاء شروط وجودها التي تتمثل في غياب التنمية السياسية والاجتماعية وتقوية المجتمع المدني والأحزاب السياسية التي تؤمن بالديمقراطية والعلمنة والتداول السلمي للسلطة والحكم. كما يحتاج إنهاء الإسلام السياسي تصفية حواضنه ومنع تكونها وتشكلها باستمرار في بيئات مختلفة. هذه الحواضن والحوامل المجتمعية والسياسية لأيدولوجيا الجماعات المتشددة والراديكالية يمكن مواجهتها من خلال استيعابها في مشاريع تنموية حداثية بالدرجة التي تنجح في تفكيك بنية التخلف.

بالتالي ثمة ضرورة إلى استعادة مفهوم الوطنية مقابل الأممية. وبناء الشخصية الوطنية يكون بتعزيز وبناء دولة المؤسسات الحديثة. يتعين النظر إلى أنَّ هناك رؤية سحرية للعالم تفرضها القوى الإسلاموية على المجتمع، باعتبار أنَّه من الضروري الانخراط والالتحاق في الجماعة الدينية لتحقيق "النصر الإلهي". وذلك في ظل الهزيمة التاريخية والحضارية المتسببة في ولادة المظلومية التي يؤدي الخطاب الإسلاموي دوراً مهماً فيها.

لديك تصنيف وفهم موضوعي وتاريخي لثلاثة مفاهيم في العادة يجري الخلط بينها واعتبارها ذات دلالة واحدة وهي الوحي والقرآن والمصحف.. اِشرحْ لنا ذلك؟ وكيف ينعكس ذلك على الوعي الديني الذي تسعى لتحريره من الدوغمائية؟

سعيد ناشيد: أسعى من خلال تلك المقاربة إلى وضع دليل للتدين العاقل. التدين الحر الهادئ والمرن بعيدا عن الوسواس والعصبية والتشنجات. هذا الدين المتحرر من الإكراهات الخارجية وأشكال الوصاية السلطوية. الوحي الذي هو مجموعة الرموز والإشارات الإلهية وكانت مثل "صلصلة الجرس" والتي تلقاها النبي محمد من خلال وسيط هو الملاك جبريل، فالوحي باختصار كان مجموعة الصور والإشارات والرموز التي تلقاها النبي بواسطة جبريل ثم القرآن يعد ثمرة تأويل النبي للوحي بحسب بيئته ولغته وثقافته أي الباراديم الثقافي في شبه الجزيرة العربية في فترة نزول الوحي أما المصحف هو ثمرة أخرى لجهود المسلمين الذين قاموا بتجميع المصحف بترتيبه الحالي وتبويبه في عهد الصحابي عثمان بن عفان. وهنا كان انتقال المسلمين من الحالة الشفاهية إلى التدوين والمصحف. إذا فهمنا هذه التطورات والتحولات في إطارها التاريخاني فسوف يتحرر الوعي الديني من حالة السكونية إلى الديناميكية وسيتحول النص الثابت والعقول المسلمة الدوغمائية في علاقتهما إلى حالة جدل وتعاطي مستمر تؤدي لفعالية في التاريخ والاجتماع الإنساني وحركة للتقدم ترتقي بالإنسان والإيمان.  

 

 

أجرى الحوار: كريم شفيق

حقوق النشر: كريم شفيق 2024

 

Qantara.de/ar

 

 

المفكر المغربي سعيد ناشيد هو باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني، ورئيس مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة (الرباط). صدر له عدد من الكتب، منها "التداوي بالفلسفة"، و"دليل التدين العاقل"، و"قلق في العقيدة" و"الوجود والعزاء". له مساهمات في بعض المؤلفات الجماعية، من بينها: كتاب بالإنكليزية تحت إشراف المستشرق البريطاني ستيفن ألف، بعنوان:

Reforming Islam: Progressive Voices From the Arab Muslim World. 2015