خطر اضمحلال دور الصحافة التونسية وغياب آفاقها

 صورة من: Tarek Guizani/DW - جانب من استوديو تابع لإذاعة شمس الخاصة التي أوقِفَ عملها، هل هذا بداية لإنهاء عمل وسائل إعلام أخرى في تونس؟  Studio des privaten Senders Shams Radio, der in Tunesien eingestellt wurde.
جانب من استوديو تابع لإذاعة شمس الخاصة التي أوقِفَ عملها، هل هذا بداية لإنهاء عمل وسائل إعلام أخرى؟ صورة من: Tarek Guizani/DW

صيحة فزع أطلقتها منظمات حقوقية في تونس بسبب خطر تراجع دور الصحافة لأسباب منها الأزمة المالية وقيود تفرضها السلطة السياسية فيما يفتقد القطاع لآفاق قد تساعد الصحافيين العاطلين. استطلاع طارق القيزاني.

Von طارق القيزاني

تخلت نسرين قطاطة مؤقتا عن حلمها بأن تمضي بطموحاتها المهنية في الصحافة التي أحبتها ودرستها بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار، وهي المؤسسة الجامعية والعمومية الوحيدة التي تدرِّس هذا الاختصاص في تونس. وتعاني نسرين التي عملت لسنوات كصحفية مستقلة (فريلانسر)، من بطالة قسرية بسبب انحسار فرص العمل في تخصصها وضعف العائد المالي من أعمالها المتقطعة. وبدل الاستسلام للبطالة توجهت الى شغفها القديم بأدوات الزينة التقليدية والأكسسوارات المصنعة من الحجارة الطبيعية. وت

أمل نسرين من خلال تسويق منتجاتها على السوشال ميديا، في ضمان دخل لعائلتها يعوضها عن الكساد الذي يضرب قطاع الصحافة في تونس.

وتروي نسرين تجربتها لـ دي دبليو عربية قائلةً: "كانت مجرد هواية ولم تكن لي أي خبرات في تصنيع الموديلات أو التسويق. لكن تلقيتُ التشجيع والدعم من المقربين لأدخل التجربة من بابها الواسع. الآن آمل أن تسير الأمور بشكل جيد. عليَّ التفكير في مستقبلي ومستقبل ابني وضمان مورد رزق".

وتعد نسرين من القلائل الذين سعوا الى ابتكار حلول من بين مئات الصحفيين العاطلين. ولكنها مع ذلك تأمل في أن يستعيد القطاع عافيته سريعا والعودة الى مهنتها بمجرد توفر العرض المناسب. وتعترف الصحفية في حديثها مع دويتشه فيله عربية بأن الأمر ليس بالسهولة المتوقعة بسبب العوائق العديدة التي تكبل الصحافة في تونس اليوم. وتتابع في شهادتها: "عملت سنوات كمراسلة مقابل الحد الأدنى من العائد المالي، لكن لم أشعر بتطور ولا بالراحة ولم تكن هناك أي ضمانات للمستقبل. يعاني القطاع من المحسوبية ونفوذ اللوبيات".

صورة من: Tarek Guizani/DW وقفة احتجاجية ضد القيود المفروضة على حرية الصحافة في تونس. Protest gegen Einschränkungen der Pressefreiheit in Tunesien – Tarek Guizani/DW

أزمة هيكلية عميقة ومزدوجة

وفي حين يُنظَر إلى تونس كنقطة ضوء لحرية الصحافة وهامش الديمقراطية الأوسع في المنطقة العربية -منذ ثورة الربيع التي قادتها في 2011- فإن نقابة الصحافيين التونسيين تقول إن الصحافة في عام 2024 تمر في تونس بأخطر مرحلة في تاريخها بسبب "أزمة هيكلية عميقة" تهدد وجودها. وذهبت المنظمة إلى حد التحذير من اندثار المهنة بسبب الأزمة المزدوجة، من ناحية اقتصادية ومالية، وأيضا من ناحية سياسية تشمل موقف السلطة ونواياها الحقيقية إزاء قطاع الصحافة.

وتأتي المفارقة في اليوم العالمي للإذاعة لتكشف عن حجم الأزمة في تونس، حيث حذر رئيس النقابة التونسية للإذاعات الخاصة -كمال ربانة- من عدم قدرة أغلب الإذاعات الخاصة على توفير أجور موظفيها بسبب شح الموارد مع تركز سوق الإعلانات أكثر فأكثر على السوشال ميديا.

ويأمل كمال ربانة أن تتخذ الحكومة إجراءات لاحتواء هذه الظاهرة. لكن لا توجد أي ضمانات حقيقية على التقاط السلطة لهذا النداء. ومن جهته دق نقيب الصحفيين زياد دبار ناقوس الخطر مع اضطرار قرابة 80 بالمئة من مؤسسات الإعلام الخاص إلى الإغلاق بسبب الضائقة المالية والاقتصادية، في وقت يتخبط فيه الإعلام العمومي بدوره في أزمة إدارية وهيكلية أثرت بشكل كبير على إنتاجه للمضامين الإعلامية.

وفي حديثه مع دي دبليو عربية لم يستبعد زياد دبار وجود سياسة منظمة من السلطة لدفع  قطاع الإعلام إلى الحافة، والتغاضي عن اتخاذ أي خطوات عملية لإنقاذ القطاع. ويوضح نقيب الصحافيين في تعليقه بالقول: "تعاني كل مؤسسات الإعلام في العالم من تبعات الأزمة الاقتصادية واتجه كثير منها إلى خدمة الديجيتال. لكن في تونس هناك فراغ مؤسساتي ولا توجد سياسة عمومية واضحة تجاه الإعلام والثقافة".

وتشكو ما تبقى من وسائل الإعلام التي تكافح من أجل الاستمرار، من توزيع غير عادل للإشهار العمومي، وهو دخل كان يمكن أن يضمن لها الحد الأدنى للحصول على جزء من التزاماتها المالية. ولكن الصحافيين يلقون باللائمة على رؤوس الأموال التي استحوذت على مشاريع إعلامية ولكنها أدارت ظهرها لحقوق الصحافيين المالية والاجتماعية. وقال زياد الدبار "غالبا ما تقترن هذه الاستثمارات في القطاع الخاص ضمنيا بمشاريع سياسية. وعمليا تسببت هذه الاستثمارات في عمليات تخريب للإعلام وفي تفشي موجة من الرداءة في المضامين".

An dieser Stelle finden Sie einen externen Inhalt. Sie können ihn sich mit einem Klick anzeigen lassen.

تفاوض مع مَن؟

وتواجه النقابة معضلة في التفاوض مع الحكومة بشأن أوضاع القطاع، والسبب أن الجهاز الحكومي ومنذ استحواذ الرئيس قيس سعيد على السلطة -بعد إطاحته بالنظام السياسي في عام 2021- لم يعين مسؤولين أو متحدثين باسم الحكومة للتفاوض مع النقابة أو حتى للتحدث إلى الرأي العام. وعلى خلفية تضييق مؤسستي الرئاسة والحكومة والوزارات على نشر البيانات ومقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي ساهم هذا في انحسار تداول المعلومات والأخبار على نطاق واسع.

ولم يتسنَّ لمؤسسة دويتشه فيله عربية الحصول على إيضاحات من مسؤولين من رئاسة الحكومة بشأن خطط الدولة  لإصلاح قطاع الإعلام. كما لم تتلقَّ المؤسسة أيضا ردا على رسالتها عبر البريد الإلكتروني.

ولكن الحكومة بعثت بإشارات غير مطمئنة بعد قرارها إلحاق الصحافيين في إذاعة "شمس إف إم" الخاصة -والمصادرة من قبل الدولة- بالإذاعة الوطنية. وإذاعة "شمس إف إم" هي من بين مؤسسات إعلامية أخرى صادرتها الدولة من أصحاب رؤوس أموال مرتبطة بالنظام السائد قبل ثورة 2011 أو بمقربين منه. وبدل تسوية وضعيتها وتسوية أجور موظفيها تُخُلِّيَ في نهاية المطاف عن المؤسسة التي اختفى وجودها من الساحة الإعلامية. وليس واضحا مصير باقي المؤسسات التي تعاني من نفس المشكل.

على العموم وبالعودة الى تصريحات الرئيس قيس سعيد فإن مواقفه لم تخلُ من انتقادات متواترة للإعلام ومنظمات المجتمع المدني بشكل أوسع، لاتهامها أساسا بتلقي "تمويلات أجنبية". كما وجه انتقادات صريحة للخط التحريري لمؤسسات إذاعية وتلفزيونية على أساس أنها تتحامل على السلطة وتخدم "أجندات سياسية" مناوئة لحكمه.

وينظر المراقبون بارتياب إلى نوايا السلطة المعلنة بتعديل المرسوم 88 لعام 2011 الذي ينظم نشاط الجمعيات، حيث يشترط التعديل مثلا حصول المنظمات على موافقة الحكومة قبل تلقي التمويل الأجنبي والحصول على التأشير من الحكومة وتقديم نسخة من نظامها الأساسي قبل النشر بالجريدة الرسمية. كما يتضمن التعديل منعا لمسيري الجمعيات من الترشح إلى الانتخابات السياسية.

ورفضت 46 منظمة حقوقية في بيان مشترك أي خطوة لتعديل أو لإلغاء المرسوم، بدعوى أنه يهدد فعليا دور المجتمع المدني  كقوة ضغط ورقابة، كما يوجه ضربة لما تبقى من مكاسب الديمقراطية التي جاءت بها ثورة 2011. وحذرت المنظمات من أن الخطوة تنطوي على رغبة السلطة في "التحكم والسيطرة على الفضاء العام والقضاء التدريجي على الأجسام الوسيطة".

 صورة من: Tarek Guizani/DW وقفة احتجاجية ضد القيود المفروضة على حرية الصحافة في تونس. Protest gegen Einschränkungen der Pressefreiheit in Tunesien – Tarek Guizani/DW

انتكاسة وقيود

لكن الأزمة في قطاع الإعلام تحديدا تجد جذورها في أسباب أبعد من ذلك. ويقول زياد الهاني الصحفي البارز والمعارض لسياسات الرئيس قيس سعيد -في حديثه لـ دي دبليو عربية- إن "الانقلاب الذي حدث في 25 تموز/يوليو 2021 لم يستهدف فقط مؤسسات الحكم، فالانتكاسة الكبرى تمثلت أيضا في الانقلاب على حرية الرأي والصحافة والمرسومين المنظمين للقطاع ( 115 و116) الذين صدرا بعد ثورة 2011".

وزياد الهاني صحافي مخضرم ومنتقد لسياسات النظام الحاكم منذ عهد بن علي قبل ثورة 2011. وكانت له مدونة خاصة على شبكة الإنترنت في ظل القيود على حرية الصحافة آنذاك. وواصل لاحقا بعد أحداث الثورة انتقاداته للسلطة واتحاد الشغل القوي وتعرض للإيقاف في 2013.

كما يعد زياد الهاني أبرز ضحايا تخلي السلطة عن القوانين المنظمة لقطاع الصحافة، عبر تحريكها دعاوى قضائية استنادا إلى قوانين أخرى كقانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال، أو المرسوم 54 المنظم للجرائم المرتبطة بأنظمة الاتصال والمعلومات الذي أصدره الرئيس سعيد نفسه.

وتقول النقابة إن نحو 20 صحافيا ملاحقون من القضاء. وتعرض زياد الهاني إلى الإيقاف في السجن لمدة تفوق الشهر بعد انتقادات علنية وجهها لوزيرة التجارة. وتحدث الصحفي -الذي يخضع للعلاج ضد مرض السرطان- إلى دويتشه فيله عربية بعد قرار القضاء إخلاء سبيله بعقوبة سجنية لمدة ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ.

ومع أن زياد الهاني تعرض للإيقاف في اكثر من مناسبة إلا أنه يعترف لـ دي دبليو عربية بأن الملاحقة القضائية والعقوبات التي تعرض لها منذ عام 2021 تعد الأكثر "قمعا". وبعد التخلي عنه من قبل إذاعة "ابتسامة إف إم" الخاصة إبان مغادرته للسجن، لجأ إلى تقديم فقرات نقدية وساخرة للسلطة على منصة "كشف ميديا" المستقلة التي تبث برامجها على تلفزيون واب عبر السوشيال ميديا.

ويقول زياد الهاني "كلما أغلقوا منبرا فتحت منبرا جديدا. وكلما حاولوا إسكات صوتي بحثتُ عن مجالات وأطر أخرى للمحافظة على خطي ورسالتي في الدفاع عن حرية الصحافة وفي أن أكون سلطة مضادة".

يشار إلى أن تونس تراجعت وفق آخر ترتيب سنوي لحرية الصحافة من قبل منظمة "مراسلون بلا حدود" إلى المركز 121 من ضمن 180 دولة، بعد أن كانت في المركز 94 عام 2022 وفي المركز 73 عام 2021 لتخسر بذلك الصدارة العربية إلى المركز الخامس خلف جزر القمر، وموريتانيا وقطر ولبنان.

 

 

طارق القيزاني

حقوق النشر: دويتشه فيله 2024

 

 

Qantara.de/ar