أيّ من الطريقين ستسلك تركيا؟

ينتقد الصحفي والكاتب ظافر سنوجاك القومية بشدة ويدعو الأتراك إلى التعرف على تاريخهم لا سيما ما يخص المذابح التي تعرض لها الأرمن، فالأمر يتعلق بالأساس الذي ينهض عليه مستقبل ديمقراطي.

ينتقد الصحفي والكاتب ظافر سنوجاك القومية بشدة ويدعو الأتراك إلى التعرف على تاريخهم لا سيما ما يخص المذابح التي تعرض لها الأرمن، فالأمر يتعلق ببناء مجتمع تمثل المعاينة النقدية للتاريخ الخاص والنقد الذاتي داخله الأساس الذي ينهض عليه مستقبل ديمقراطي.

غدت القومية في وقتنا الحاضر إيديولوجيا الفاشلين. وقد تحولت بصفة أخص داخل مجتمعات الاستبداد التي فشلت في تحقيق الارتقاء إلى مستوى متطلبات الاقتصاد العالمي إلى أداة تستعمل للحفاظ على الحالة الراهنة للأوضاع.

وتشمل هذه الظاهرة كذلك المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية. إن القومية كإيديولوجيا للفاشلين تبتز المشاعر الوطنية وتشن هجوما عنيفا ضد كل من يفكر بطريقة مغايرة.

لقد غدت القومية التركية في الأثناء ظاهرة ألمانية. ولعل ألمانيا، بحكم ماضيها التاريخي، هي البلد الذي مارس وبصفة أكثر صرامة من أي بلد آخر تنصله من كل شكل عنيف للقومية. لكن كيف يمكننا التعامل مع القومية التركية فوق التراب الألماني؟

هل نحن محصنون ضد مجموعة بشرية يقع استغلالها من طرف بلادها الأصلية ككتيبة استطلاعية للقومية؟

منذ عدة أيام تخوض وسائل الإعلام التركية بألمانيا حملة دعائية، وتملي على الأتراك المقيمين في هذا البلد الموقف الوطني التركي الذي يعد الموقف الصحيح الوحيد في مسألة إبادة الأرمن، وتغمر بالثلب أصوات الرأي النقدي.

كل من يفكر بطريقة مغايرة لكتَبة التاريخ الرسمي في تركيا يختم عليه بميسم الخائن. ممارسة انجر عنها انقسام خطير في صفوف الجالية التركية، بل وأكثر من ذلك فقد أدخل ذلك ضررا فادحا على علاقة هؤلاء، التي تتسم بالتحفظ على أية حال، بالمجتمع والسياسة الألمانية.

إيقاظ عداوات قديمة

ومنذ مدة من الزمن لم يعد الأمر يتعلق في الجدل القائم حول الإبادة العرقية التي تعرض لها الأرمن بالمصالح التركية، وبما هو نافع بالنسبة لتركيا، بل بشعور قومي غامض ينبني على حساسيات لم يعد هناك ما يبررها.

مخاوف توقَظ وعداوات قديمة تُشحذ ضد أوروبا، والغرب بكل بساطة، والمسيحيين، وكذلك ضد فصيلة مجتمعية تتعامل تعاملا نقديا مع تاريخها. إنها حالة لا يمكن أن تستمر، وهي تعود بالضرر على الأتراك أنفسهم أكثر من غيرهم. كما أنها تدعّم بالنهاية تلك الصورة المكوّنة عن تركيا والأتراك، والتي غالبا ما يعرب الأتراك عن تذمرهم منها، فيما هم يساهمون مساهمة كبيرة في ترسيخها.

إنه أمر لا يحتمل أن توضع الحساسيات التركية على نفس المستوى مع الحساسيات الأرمنية. وإن موقف اللامبالاة، بل موقف النكران الذي ظل عليه الطرف التركي لمدة تسعين سنة هو الذي قاد إلى الوضعية الحالية.

موقف لم يكن سوى تعبير عن ازدراء بالضحية وتلميع لسحنة الجلاد. شعب بأكمله قد عاش لأجيال متتالية على كذبة، و تحولت تلك الكذبة إلى أساس تنبني عليه هويته. لقد تم إقصاء الضحايا من الذاكرة وكذلك مسح آثار مخلفاتهم على أرض الأناضول التي كان مآلها التداعي، وأضحت تبعا لذلك أمرا أكثر فأكثر لاواقعية.

أسطورة التاريخ

لكن لا أحد يفلت من التاريخ. فالتاريخ الذي يتم طمسه لا بد أن يشق له في يوم ما طريقا إلى الوعي، وسيُدخل الاضطراب على أولئك الذين سيجدون أنفسهم في مواجهة مع ماضيهم الذي لم يتصالحوا معه.

وإنه لمن الطبيعي أن يدخل ذلك الفصل التراجيدي من ملاحقة وإبادة الأرمن على أرض الأناضول ارتباكا شديدا على الأتراك، ويدفع بهم إلى الصمت وردود الفعل العنيفة على حد سواء.

فهذا العمل الإجرامي بالنهاية يتخذ بعدا من شأنه أن يقلب وجه أسطورة التاريخ البطولي لتركيا الحديثة إلى نقيضها المطلق. تاريخ يحمل بين طياته الكثير من الضحايا أيضا؛ ضحايا لم يعترف لها بأي نوع من الذكرى، وهي تطالب الآن بضريبتها.

إن الأمر لا يتعلق في تركيا الآن بالحقيقة التاريخية، بل بالنظر وجها لوجه إلى التاريخ. وإنه لمن باب اللغو مطالبة المؤرخين بتناول هذه المسألة كما لو أنهم لم يقوموا بذلك خلال التسعين سنة الماضية؛ كما لو أن الأمر يتعلق بتحرير كتاب تاريخ. كلا، إن الأمر يتعلق بشيء آخر مختلف تماما.

يتعلق الأمر بضرورة أن ندرك أن مجتمعا لا يعرف تاريخه الخاص، أو لا يعرفه إلا من خلال التزويرات يظل غير قابل للتحول، وبالتالي لا مستقبل له. يتعلق الأمر ببناء مجتمع تمثل المعاينة النقدية للتاريخ الخاص والنقد الذاتي داخله الأساس الذي ينهض عليه مستقبل ديمقراطي.

مجتمع لا تصنع الأساطير البطولية داخله من المجرمين أبطالا، وتتعامل فيه الأجيال القادمة فيه مع كل من يفكر بطريقة مغايرة ومع الأقليات بصفة مختلفة عن تعامل الجيل الحاضر. وفي بداية أي حوار تركي-أرمني لا بد أن يكون هناك استعداد للاعتراف بآلام الضحية.

كما أنه لا بد أن يكون واضحا لدى الطرف التركي بأن ذلك لن يكون حوارا سهلا بإمكان المرء أن يجريه على طريقة مفاوضات حول التعاون الاقتصادي. على المرء أن يستعيد القدرة على الكلام قبل كل شيء، وأكثر من ذلك وأهم أن يصغي إلى الآخر وإلى روايته الخاصة للتاريخ، ذلك أن الاعتراف يأتي الآن متأخرا جدا وقد سُبق بفترة طويلة جدا من الإنكار والازدراء بالضحية.

كل من يفتح ملف هذا الفصل سيصطدم لدى كل المورطين فيه ببنية ذُهانية مرضيّة تعرقل مسار المصالحة. غير أن المصالحة لا يمكن أن تأتى إلا من لدن أولئك الذين ذاقوا تجربة العذاب، ولا يمكن أن تكون مطلبا يصوغه أولئك الذين يتحملون مسؤولية العذاب والمظالم.

هل تمشي تركيا نحو العماء القومي؟

إن تركيا اليوم تقف أمام اختيار أساسي؛ في مفترق طرق مصيري. هل ستمضي البلاد إلى ذلك الوضع الذي آلت إليه يوغسلافيا قبل عشر سنوات؟ بلاد تسوقها مغالطات الديماغوجيين ومؤسسي الأساطير، أولئك الذين يحتلون موقع المفلسين أمام التاريخ، والذين يقفون اليوم أمام المحكمة الدولية لدفع ثمن جرائمهم السياسية؟

أم ستسير باتجاه التحول إلى بلد أوروبي على استعداد للقبول بتعدد الآراء وبالديمقراطية، لا على الورق فقط، بل بالسماح بها وبالتمتع بعيشها على أرض الواقع؟

الطريق الأولى تقود إلى العماء القومي؛ إلى البقاء على بنية مجتمعية منهكة لم تعد قابلة للحياة؛ إلى نمط الدولة القومية التي أُقبرت داخل خنادق الحروب الأوروبية. والطريق الثانية إلى مسار يمكن أن نسلّم بأنه غير آمن نوعا ما، مسار قد تخلى عنه الأبطال والقديسون، لكنه بالنهاية المسار الوحيد الذي يعد بالنجاح ويتلاءم مع متطلبات العصر و يكون الشك والنقد الذاتي فيه رفيقي دربه الدائمين.

إن المخدع الدافئ الذي تعد به القومية قد غدا منذ أمد وهما خادعا. وإن أولئك الأتراك الذين يضعون أنفسهم أداة تستعملها السياسة التركية الحالية لغرض إنكار الإبادة التي تعرض لها الأرمن، ومن أجل التمادي على موقف لم يعد مقبولا على المستوى الدولي اليوم وستقع مراجعته حتما غدا، هؤلاء سيجدون أنفسهم لا في موقع الغبي معنويا فحسب، بل ومجردين أيضا من المخدع الدافئ الذين لا يريدون التفريط فيه.

بقلم ظافر سنوجاك
ترجمة علي مصباح
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة
صدر المقال في صحيفة فرانكفورتر ألغماينهز

الكاتب والصحفي ظافر سينوجاك من مواليد سنة 1961 بأنقرة ، ترعرع في إسطنبول ويقيم حاليا في برلين.

قنطرة

الأرمن والإبادة الجماعية
حتى بعد انقضاء 90 عاما على المذابح، ما زال لمسألة العلاقة بين جمهورية تركيا الفتية والأرمن وقع تلاطم الأمواج الهائجة. إلا أن هناك اهتماما متزايدا بأبحاث المؤرخين الساعين إلى دراسة هذه القضية في سياقها التاريخي الحقيقي.تقرير يورغين غوتشليش

معسكر الأتراك المشككين بالاتحاد الأوربي يزداد قوة
لازال الجدل حول انضمام تركيا الى الاتحاد الأوربي محل نقاش وجدل بين فئات الشعب التركي، حيث يزداد عدد المشككين بهذا الأمر. تقرير سوزانه غوستن من إسطنبول

ملف تركيا والاتحاد الأوربي