أحجية إعادة تركيب شظايا آثار عراقية مبعثرة

عامل في متحف الموصل في العراق يحاول إعادة تركيب قطع أثرية مبعثرة.
عامل في متحف الموصل في العراق يحاول إعادة تركيب قطع أثرية مبعثرة.

لن يُعاد افتتاح متحف الموصل الثقافي قبل عام 2026. الصحفية الألمانية لينا بوب تَتَبَّع كيفية إصلاح المُرمِّمين الدوليين والعراقيين للأضرار التي سببها "تنظيم الدولة الإسلامية" لآثار عراقية عتيقة.

الكاتبة ، الكاتب: Lena Bopp

هل يمكن المضي بالترميم أم لا؟ كان هذا السؤال الذي طرحه على نفسه دانيال إبليد حين جاء إلى الموصل للمرة الأولى بعد أربع سنوات من تدمير مقاتلي الدولة الإسلامية للمدينة التي تقع في شمال العراق ومتحفها. ويتذكّر كيف ساروا فوق طبقة من الغبار يبلغ سمكها عشرة سنتيمترات داخل المتحفِ.

وفوق بقايا ما مثّل في يوم من الأيام كنوز الموصل، وهي: 25 ألف كتاب من المكتبة، التي اشتعلت فيها النيران على الأرجح نتيجة الانفجار الهائل الذي أحدثه مقاتلو داعش من أجل تفجير قاعدة العرش الآشوري التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين. كما تحوّل أسد آشوري واثنان من ثور لاماسو (الثور المجنّح الآشوري)، إلى أنقاض وغبار. واللاماسو هي مخلوقات أسطورية لها رؤوس بشرية وأجنحة نسر وجسم ثور.

وقد وثّق عناصر من داعش تدمير هذه التماثيل التي تعود أصولها إلى مملكة الحضر. في البداية أُسقِطت التماثيل من قواعدها ومن ثم حُطِّمت بآلات ثقب الصخور. وشُوهد هذا الفيديو في جميع أنحاء العالم في شباط/فبراير 2015.

جاء إبليد إلى المتحف كرجل كان يستمتع، وهو في السادسة من عمره، بإعادة تجميع قشور الجوز المتكسّرة معاً، وكرجل ساعد بالفعل في ترميم القطع الأثرية التي دمرتها حركة طالبان في أفغانستان. أما الآن فهو يعمل على مشروع، وصفته رئيسته في العمل، أريان توماس، رئيسة قسم آثار الشرق الأدنى في متحف اللوفر، بأنه "أحجية تركيب مرعبة".

 

تحوّل الأسد الآشوري واثنان من مخلوقات الثور المجنّح -وهي مخلوقات أسطورية برؤوس بشرية وأجنحة نسر وجسد ثور-إلى غبار وركام - العراق. Screengrab from a video released by Islamic State in 2015, showing the destruction of antiquities in Mosul (image: AFP)
شنّ تنظيم الدولة الإسلامية حرباً على التراث الثقافي للعراق: من ضمن أشياء أخرى تحوّل الأسد الآشوري واثنان من مخلوقات الثور المجنّح -وهي مخلوقات أسطورية برؤوس بشرية وأجنحة نسر وجسد ثور-إلى غبار وركام. وُثِّق تدميرُ هذه التماثيل -التي أسقِطت في البداية من قواعدها ومن ثم حُطِّمت بآلات ثقب الصخور- من قبل أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية.

 

يقوم دانيال إبليد وفريقه بإعادة تجميع بقايا كنوز متحف الموصل التي دمّرها تنظيم الدولة الإسلامية. ومنذ ما يقرب من عامين، يبحثون بين عدة آلاف من الشظايا، للعثور على القطع التي تتوافق معاً.

بعض القطع كبيرة الحجم وتزن عشرين كيلوغراماً، وذلك على الرغم من الجهود المبذولة من قبل مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية لتفتيتها قدر الإمكان. بينما لا يتجاوز حجم قطع أخرى نصف ظفر. وهي ملقاة في جميع أنحاء صالات العرض الخلفية للمتحف، والتي استغرق تنظيفها فحسب عاماً كاملاً. بداية، وضع المرمّمون من فرنسا شبكة على الأرض، ثم قاموا بتعبئة كل مربع من الشبكة في صندوق خاص به.

المنطق الداخلي للانفجار

فُرِزت حتى هذه اللحظة العديد من الأجزاء الفردية، ورُقِّمت وصُنِّفت، كما وُضِعت على منصات خشبية في الغرف التي بدأ النظام والترتيب يظهر فيها من جديد. تبدو أجزاء كبيرة من قاعدة العرش، مع كتابة مسمارية في أعلاها وأسفلها، والتي يُقال إنّ عرش الحاكم الآشوري آشور ناصربال الثاني قد استند عليها في القرن التاسع قبل الميلاد، مثبّتة معاً بأربطة مطاطية. كما أنها تحمل آثار ندوب الغراء.

يقول إبليد: "لكل انفجار منطق داخلي". بمجرد أن تتمكن من فهم ذلك، يمكنك التفكير في الانفجار بشكل عكسي، إن صحّ التعبيرُ، ومن ثم العثور بسهولة أكبر على قطعِ الأحجية. ووفقاً لإبليد فإنّ ما سيحدث تالياً يتطلّب الكمال. فإن أخطأت بمقدار ميلليمتر واحد فقط في البداية تتضاعف الأخطاء في كل خطوة لاحقة، إلى أن ينتهي بك الأمر مع شيء مشوّه لدرجة أنه يصبح من المستحيل إضافة المزيد من قطع الحجر إليه. "في البداية، كان علينا أحياناً كبح جماح زملائنا العراقيين لهذا السبب".

ومنذ عامين يأتي ثمانية موظفين من متحف اللوفر إلى الموصل لعدة أسابيع بالتناوب، ويقومون تدريجياً بتعليم المرمِّمين العراقيين كل ما يحتاجون إلى معرفته. ويشكّل برنامج التدريب هذا جزءاً من اتفاقية إعادة بناء المتحف المبرمة بين متحف اللوفر والصندوق العالمي للآثار والتراث ومؤسسة سيمثونيان والهيئة العامة للآثار والتراث في العراق.

 

فرقة الاستجابة السريعة للتراث العالمي

وُضِعت الخطط ووُفِّرت الأموال، مقدمةً من منظمة ألِفْ (التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع) Aliph، وهي منظمة تشكّلت بمبادرة من فرنسا في عام 2018 وتستفيد بمهارة من علاقاتها الدبلوماسية في المنطقة. وتُموَّل منظمة ألف إلى حدٍّ كبير من قبل فرنسا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وقد جمعت مؤخراً 90 مليون يورو من الاستثمارات على مدى خمس سنوات. وتعتبر المنظمة نفسها فرقة للاستجابة السريعة، ملتزمة بالإنقاذ غير البيروقراطي لمواقع التراث الثقافي المعرضة للتهديد في مناطق الأزمات. ويتمحور تركيزها الأساسي في الوقت الحالي حول أوكرانيا والعراق.

 

موقع جامع النوري في قلب مدينة الموصل القديمة - العراق. View of Mosul's famous al-Nuri mosque, which was destroyed by Islamic State (image: Philipp Breu)
تجاوز التدمير الجنوني للمعالم الثقافية للتراث العراقي -من قِبَل عناصر تنظيم الدولة الإسلامية- ما قبل الإسلام: تُظهِرُ هذه الصورة موقع جامع النوري في قلب مدينة الموصل القديمة، حيث أعلن زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي (1971-2019) خلافته. وفجّر تنظيم الدولة الإسلامية مئذنته الشهيرة قبل فترة قصيرة من هزيمته.

 

ففي العراق وحده تدعم أَلِف ما يقرب من 40 مشروعاً بقيمة تصل إلى 30 مليون دولار. ويُعدُّ مشروع إعادة بناء متحف الموصل الأضخم من بينها، غير أنه ليس الوحيد في المدينة. إذ دمّر تنظيم الدولة الإسلامية عشرات المواقع ذات الأهمية التاريخية والمباني الدينية في الموصل وما حولها، من أديرة وكنائس ومعابد وحتى جوامع مثل ذلك الموجود على تل النبي يونس، والذي بُنِي فوق مرقد النبي يونس.

اشتبه علماء الآثار منذ فترة طويلة (وكان تنظيم الدولة يعرف ذلك أيضاً) بوجود قصر كبير يعود تاريخه إلى الإمبراطورية الآشورية تحت الجامع. وعلى أمل استخراج كنوز هذا القصر وبيعها في السوق السوداء حفر عناصر داعش أنفاقاً طويلة عبر الأرض في جميع أنحاء الموقع. والمفارقة المريرة هي أنه: منذ أن طُرِدَ داعش، استخدم علماء الآثار الألمان هذه الأنفاق ذاتها من أجل استكشاف القصر الذي يعود تاريخه إلى آلاف السنين. ومنذ ذلك الوقت اكتُشفت غرفة العرش والنقوش الملكية وتماثيل حراس البوابة التي يبلغ طولها عدة أمتار.

ويوفّر معرض صغير في المتحف معلومات عن أعمال التنقيب والدمار وخطط إعادة البناء، وقد فتح المتحف أبوابه من جديد أمام الجمهور من أجل عرض هذه المعلومات، لأول مرة منذ عشرين عاماً.

إذ أغلق المتحف أبوابه في عام 2003 عندما بدأ الغزو الأمريكي. وفي تلك المرحلة نُقلت جميع الكنوز الفنية -التي يمكن نقلها- إلى بغداد حيث كان من المفترض أن تكون بأمان، ولم يكن أمناء المتحف على علم بأنّ المتحف العراقي هناك سيُنهب أيضاً بسرعة وبشكل مُتعمّد.

ولم يُتّخذ قرار إعادة افتتاح المتحف في الموصل إلا بعد مرور عشرة أعوام، ولكن قبل أن يحدث ذلك بالفعل كان تنظيم داعش قد سيطر على المدينة وأجزاء كبيرة من المناطق المحيطة بها. والآن يضمُّ هذا المعرض الصغير الكثير من صور ما قبلُ وما بعدُ.

 

يحتوي المعرض على صور صادمة لبوابة نركال في نينوى القديمة، والنمرود، ومدينة الموصل القديمة، وهي مواقع تراث ثقافي لا تُقدّر بثمن، فُقِدت أجزاء منها بشكل لا يمكن إصلاحه. لكنَّ المعرض يوثّق كذلك الرغبة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهذه الإرادة تلفت الانتباه بمجرد الاقتراب من المدينة.

أثناء القيادة عبر التضاريس القاحلة، تمر كيلومتراً تلو الآخر بمحطات الوقود وورش العمل وآلات البناء الثقيلة وتجار الخردة وقطع الغيار وإطارات الشاحنات الكبيرة التي تتحرك ذهاباً وإياباً بين مدينة أربيل الكردية وبين الموصل من دون توقّف.

ومن المقرّر إعادة افتتاح المتحف خلال ثلاث سنوات فحسب. ويعاني المبنى من ندوب شديدة بفعل القنابل اليدوية والنيران والمتفجرات. ولا تزال دعامات ألمنيوم ملتوية تتدلَّى من الأسقف السوداء المتفحّمة، كما توجد فجوة كبيرة في الأرض حيث فُجِّرت قاعدة العرش.

 

فجوة ضخمة في الأرضية حيث فجر عناصر تنظيم الدولة الإسلامية قاعدة العرش الآشوري في المتحف الثقافي في الموصل - العراق. Hole in the floor of the Assyrian Hall, Mosul Cultural Museum (image: Iraqi State Board of Antiquities and Heritage)
آثار القنابل اليدوية والحرائق والمتفجرات: فجوة ضخمة في الأرضية حيث فجر عناصر تنظيم الدولة الإسلامية قاعدة العرش الآشوري في المتحف الثقافي في الموصل. وتماشياً مع رغبة سكان المدينة ستبقى الفجوة موجودة للتذكير بتلك الأيام المظلمة. ولكن تقرر أيضاً استعادة سطوع التصميم الأصلي للمبنى كما هدف إليه المعماري محمد مكية، وإعادة الزجاج إلى واجهته.

 

ووفقاً لرغبة سكان المدينة، الذين استُطلِعت آراؤهم في مشروع توعية مجتمعي، ستبقى الفجوة للتذكير بتلك الأيام المظلمة. بيد أنه قد تقرّر أيضاً استعادة بريق التصميم الأصلي للمبنى -كما تخيّله المعماري محمد مكية حين صممه- وإعادة إضافة الزجاج إلى الواجهة التي أُغلِقت بالطوب بشكل متزايد على مرّ العقود، ربما لأسباب أمنية مختلفة.

وهذا يعني أنّ الحداثة بدأت تنجح هنا أيضاً، وهذا أمر لافت للنظر بما أنّ التراث المعماري لهذه الفترة الحديثة نسبياً قد واجه في أحيان كثيرة صعوبات في العالم العربي.

مَبيعة في السوق السوداء

وما الذي سيعرضه المتحف؟ لم يترك عناصر الدولة الإسلامية الكثير وراءهم. إذ أنّ تابوتاً خشبياً يحمل نقوشاً قرآنية وباباً مزدوجاً من القرن الثالث عشر الميلادي هي الأشياء الوحيدة التي نجت من التدمير وبقيت سليمة إلى حد كبير.

بينما وقعت جميع الكنوز الفنية التي تعود إلى ما قبل الإسلام ضحية لإيديولوجية تنظيم الدولة الإسلامية الأصولية، التي لا تتسامح مع أي ثقافات أو تاريخ سوى ما يخُصّها، إلا إن كانت ثقيلة جداً بحيث لا يمكن نقلها. أما الأعمال التي يمكن حملها فعلى الأغلب أنها قد نُهِبت وبيعت في السوق السوداء لتأمين الأموال لصندوق الحرب.

لا أحد هنا يجرؤ على الأمل في أنَّ أيَّاً من الأعمال السبعين التي اختفت ستظهر من جديد. ومع ذلك أمر رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث في العراق -ليث مجيد حسين- كما يقول بنقل جميع الاكتشافات من أعمال التنقيب في نينوى إلى متحف الموصل.

كما سيصبح المبنى موطناً للقطع الأثرية من مستودعات بغداد. إضافة إلى ذلك أُعِيدت 17 ألف قطعة أثرية إلى العراق من الولايات المتحدة الأمريكية قبل عامين. كما عاد أكثر من 6000 كنز أثري مؤخراً إلى العراق من لندن. وقد حصل عليها المتحف البريطاني في عام 1923 على سبيل الإعارة لأغراض البحث والدراسة والترجمة. يقول حسين: "نظهر للعالم أنّنا جادون بشأن إعادتها إلى الوطن".

 

أنفاق النهب التي حفرها الجهاديون تحت مرقد النبي يونس - الموصل - العراق. Ancient carvings are pictured in a tunnel underneath the tomb of Jonah (Nabi Yunus) in eastern Mosul, Iraq (image: ARIS MESSINIS/AFP/Getty Images)
لا تزال الموصل كنزاً أثرياً: في مفارقة مريرة، منذ طرد تنظيم الدولة الإسلامية، استخدم علماء الآثار الألمان أنفاق النهب التي حفرها الجهاديون تحت مرقد النبي يونس لاستكشاف قصر عمره آلاف السنين، والذي كان يُشتبه بوجوده لمدة طويلة من الزمن. كما اكتُشِفت غرفة العرش وتماثيل حراس البوابة التي يبلغ طولها عدة أمتار والنقوش الملكية.

 

إضافة إلى ذلك فإنّ دانيال إبليد واثق من أنّ مرمميه سيتمكنون من إعادة تجميع قاعدة العرش بحلول وقت إعادة افتتاح المتحف. ويمكن الآن رؤية الجزء السفلي من الأسد بوضوح، على الرغم من أنه لا يزال يحتوي على ثقب كبير في منتصف البطن. يقول إبليد: "في هذا المكان وُضِعت المتفجِّرات". ولكن عُثِر على العديد من الشظايا التي تشبه شرائح خبز ستُصَفُّ الآن واحدة قرب الأخرى.

ألا توجد حقاً آلة ثلاثية الأبعاد، أو أي نوع من أنواع الذكاء الاصطناعي يمكنهما المساعدة في هذا العمل؟ يقول إبليد ربما بعد عشر سنوات، لكن ليس الآن. لا نزال بحاجة إلى العقل البشري من أجل هذا العمل. عقل قادر على مواجهة عناد المدمرين بخفة تساعد على التغلب على لحظات اليأس.

يقول إبليد إن علينا أن ننظر إلى الأمر على أنه لعبة. "طالما أنه عبارة عن لعبة، فهو قابل للإنجاز".

 

 

لينا بوب

ترجمة: يسرى مرعي

حقوق النشر: فرانكفورتَر ألغيمانِه تسايتونع / موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de