الحجاب يحسم صراع ربع قرن لصالحه في برلين

المعلمة المسلمة فريشتا لودين -  ألمانيا.
المعلمة المسلمة فريشتا لودين - ألمانيا.

نهاية نزاع ثقافي شرس ومرير: برلين آخر ولاية ألمانية عليها السماح للمعلمات بلبس الحجاب بالمدارس الحكومية بعد معارك قانونية بالمحاكم دامت ربع قرن. تعليق الصحفي الألماني دانيال باكس لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Daniel Bax

خاضت ولاية برلين معركتها الدفاعية الأخيرة وخسرت معركة الانسحاب؛ ولم يعد يسمح لها فرض حظر شامل على ارتداء معلماتها الحجاب. كانت محكمة العمل الاتحادية في مدينة إرفورت أصدرت قبل عامين ونصف حكمًا يقضي بذلك ضدَّ ولاية برلين. ولكن وزيرة التعليم في ولاية برلين حينها، السيِّدة ساندرا شيريس (من الحزب الاشتراكي الديمقراطي) رفضت هذا الحكم وقدَّمت بدعم من المحامية سيران أتيش شكوى استئناف إلى المحكمة الدستورية الفيدرالية.

أما الآن فقد تم رفض هذه الشكوى. وبهذا يكون قد انتهى مسار برلين الخاص وانتهى معه صراع ثقافي شرس ومرير من دون الكثير من اللغط بعدما استمر لربع قرن من الزمن.

فقبل خمسة وعشرين عامًا بالضبط لم تُقبَل المعلمة الألمانية الأفغانية فريشتا لودين في مهنة التدريس في ولاية بادن فورتمبيرغ الألمانية وذلك لأنَّها أرادت ارتداء الحجاب في الفصول الدراسية لأسباب دينية. وبذلك فقد بدأ في عام 1998  ما سُجِّل في التاريخ الألماني باسم "الجدل حول الحجاب".

وكان الجمهوريون الشعبويون اليمينيون في ذلك الوقت لا يزالون في برلمان الولاية بمدينة شتوتغارت وكانوا يمارسون ضغوطات، وكانت وزيرة التعليم في تلك الأيَّام السيِّدة أنيته شافان من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي قاسية بشكل صارم، وقالت إنَّ: الحجاب يعتبر "رمزًا للإسلاموية" وَ "اضطهاد المرأة" ولا مكان له في غرف المعلمين والمعلمات.

 

 

امرأة بحجاب وأخرى بلا حجاب. Frauen mit und ohne Kopftuch; Foto: dpa/picture-alliance
عقدان من الجدل حول قطعة قماش: بما أنَّ المحاكم الألمانية تُصِرُّ دائمًا على أن تكون حرية الدين للجميع فإنَّ هذا يُظهِر من ناحية أنَّ سيادة القانون تسير بشكل جيِّد في ألمانيا. ولكن مع ذلك فقد احتاجت المحاكم وقتًا طويلًا للقيام بذلك، وهذا لا ينعكس جيِّدًا على السياسيين، الذين كان بإمكانهم توضيح الأمر بمفردهم، مثلما يكتب دانيال باكس: "لا يزال الحجاب موضوعًا مثيرًا. بيد أنَّه اليوم لم يعد الموضوع الوحيد الذي يثير ردود فعل مبالغًا فيها. فقد حلَّت الآن موضوعات مثل الحرب على ’ثقافة الصحوة‘ وَ ’ثقافة الإلغاء‘ -وغيرها من التجاوزات المفترضة في سياسات الهوية المزعومة والمبالغ فيها- محلَّ الحجاب باعتباره الموضوع الأوَّل المثير للخوف".

 

القانون الأساسي الألماني يكفل حرية الدين

وقد قُدِّر لهذه النغمات الصاخبة أن تترك أثرها على النقاش لنحو عقدين من الزمن. وكان الأمر يتعلق في العادة بأكثر من مجرَّد حجاب: إذ كان يتردَّد لدى العديد من منتقدي الإسلام صدى أوهام مؤامرة هدفها المزعوم هو "أسلمة" ألمانيا بشكل تدريجي.

وأثارت المحكمة الدستورية الاتحادية بحكمها الأوَّل الخاص بالحجاب في عام 2003 حالة ارتباك. فقد فهمته العديد من الولايات الاتحادية الألمانية عى أنَّه دعوة لفرض حظر قانوني على ارتداء المعلمات الحجاب. وحتى أنَّ ولاية برلين ذهبت إلى أبعد من ذلك ومنعت جميع الكوادر التعليمية في المدارس الحكومية من ارتداء أية رموز دينية أثناء العمل - سواء كان ذلك الرمز الحجاب أو الكيباه -أي القُبَّعَة (طاقية اليهود)- أو الصليب بقلادة على الرقبة.

وأصدر بعد مرور اثني عشر عامًا قضاة المحكمة الدستورية في مدينة كارلسروه قرارًا قاطعًا يقضي بأنَّ فرض حظر شامل على الحجاب يتعارض مع حرية الدين المكفولة في القانون الأساسي (الدستور) الألماني. ولا يمكن حظره إلَّا إذا كان يهدِّد حالة السِّلم المدرسي في حالات فردية. وصارت توجد منذ ذلك الحين معلمات مسلمات محجَّبات يُدَرِّسن في مدارس حكومية في العديد من الولايات الاتحادية الألمانية.

ولم يتأثَّر السِّلم المدرسي بسبب حجاب المعلمات - بل بسبب أولياء الأمور والزميلات والزملاء المتعصِّبين الذين توجد لديهم مشكلة مع الحجاب. ولم تتحقَّق سيناريوهات الرعب وكان الذعر الأخلاقي غير مبرَّر.

وطبعًا لا يُسمح لكوادر التعليم بالدعوة والتبشير داخل المدارس، علمًا بأنَّ هذا لا ينطبق على المعلمات المسلمات فقط وقد كان دائمًا كذلك. وحتى الآن لا يزال من غير المعروف أيضًا إن كان أي من تلاميذ المدارس قد اعتنق الإسلام بشكل تلقائي عند رؤيته الحجاب.

بل على العكس تمامًا من ذلك: إذ إنَّ الحجاب لم يعد يصلح حتى عندما ترتديه المعلمات كرمز للاحتجاج أو كوسيلة للتميُّز والابتعاد عن مجتمع الأكثرية أو عالم البالغين والكبار. فالحجاب لا يمكن تسييسه عندما يصبح شيئًا طبيعيًا.

لقد صارت جميع الولايات الاتحادية الألمانية تقريبًا تسمح للمعلمات بارتداء الحجاب إن كن يردن ذلك ولاية باستثناء برلين وحدها التي كانت قد عارضت ذلك حتى النهاية قبل أن يتغير ذلك أخيرا، وحتى أنَّ العاصمة الألمانية برلين كانت قد فضَّلت أن تدفع تعويضات للمعلمات اللواتي شعرن بالتمييز ضدَّهن على أن تلغي "قانون الحياد" المثير للشكوك والتساؤلات.

 

 

واسم هذا القانون تم اختياره بذكاء ولكنه مضلل: فهو يحوِّل معنى حياد الدولة إلى نقيضه. وذلك لأنَّ الدولة المحايدة دينيًا في الواقع لا تُقَيِّد حرية معلماتها الدينية ولا تفرض عليهن أية قواعد تحدِّد شكل ملابسهن. وقد أوضحت ذلك المحكمة الدستورية الاتحادية.

مسار برلين الخاص

استمر في مسار برلين الخاص تأثير بروتستانتية الدولة الألمانية البروسية، التي كانت دائمًا تنظر بريبة إلى رموز التديُّن المرئية. وكانت هذه الريبة موجَّهة في الإمبراطورية الألمانية القيصرية ضدَّ الكاثوليك وفي جمهورية برلين ضدَّ المسلمين. ولا يخلو الأمر من بعض السخرية كون الحزب الذي أراد التمسُّك بهذا القانون حتى النهاية في برلين -إلى جانب حزب البديل من أجل ألمانيا- هو الحزب الذي يحمل في بداية اسمه الحرف "سي" (اختصارًا لكلمة "مسيحي" في الألمانية) ويتنفَّس روح العلمانية الفرنسية السلطوية.

فقد علَّقت السياسية البرلينية كورنيليا زايبلد من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي على حكم المحكمة الدستورية في كارلسروه بقولها "عندما يتم عرض الرموز الدينية بشكل واضح في داخل مؤسَّسات الدولة" فإنَّ ذلك يُهدِّد "السلم والتماسك". وهذه المتحدِّثة باسم السياسة الكنسية في كتلة حزب الاتحاد المسيحي البرلمانية في مجلس نوَّاب ولاية برلين لم تكن تقصد بطبيعة الحال أشجار عيد الميلاد أو زينة عيد الفصح بل كانت تقصد حجاب المعلمات المسلمات.

وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي صار مشاركًا الآن في حكومة ولاية برلين بعد أن حقَّق نجاحًا مفاجئًا في جولة إعادة الانتخابات المحلية في شهر شباط/فبراير 2023. وقد كتبت إدارة التعليم في مجلس حكومة ولاية برلين -وحتى قبل تشكيل مجلس حكومة الولاية الجديد- في خطاب موجَّه إلى جميع مديري المدارس أنَّ ولاية برلين تقبل الآن من حيث المبدأ ارتداء المعلمات المسلمات الحجاب في داخل الفصول الدراسية.

وجاء في هذا الخطاب أنَّ حظر الحجاب لا يجوز إلَّا في حالات استثنائية ومبرَّرة. وليس من المتوقَّع أن تبتعد وزيرة التعليم الجديدة كاتارينا غونتر-فونش (من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي) عن هذا الموقف الذي باتت ولاية برلين الآن تتماشى من خلاله مع الممارسة العملية في الولايات الاتحادية الألمانية الأخرى.

 

زينة نصار أوَّل ألمانية صعدت إلى حلبة الملاكمة وهي محجَّبة. Die deutsche Boxerin Zeina Nassar mit Kopftuch; Foto: DW/A.Khassan
حين يرى البعض الحجاب رمزًا للقمع والاضطهاد: يعتبر الحجاب بالنسبة للرياضية زينة نصار -التي كانت أوَّل ألمانية صعدت إلى حلبة الملاكمة وهي محجَّبة- أكثر من مجرَّد بيان نسوي. تركت النغمات الصاخبة لنحو عقدين من الزمن أثرها على النقاش حول الحجاب باعتباره "رمزًا للإسلاموية" وَ "اضطهاد المرأة" ولا مكان له في غرف المعلمين والمعلمات.

 

وبما أنَّ المحاكم الألمانية تُصِرُّ دائمًا على أن تكون حرية الدين للجميع فإنَّ هذا يُظهر من ناحية أنَّ سيادة القانون تسير بشكل جيِّد في ألمانيا. ولكن مع ذلك فقد احتاجت المحاكم وقتًا طويلًا للقيام بذلك، وهذا لا ينعكس جيِّدًا على السياسيين، الذين كان بإمكانهم توضيح الأمر بمفردهم. ولكن بدلاً من ذلك فضَّلت حكومات الولايات الألمانية ذات الطابع الديمقراطي المسيحي بشكل خاص دعم القوانين الشعبوية التي تُميِّز ضدَّ المعلمات المسلمات باسم "الثقافة الرائدة" المسيحية.

ولم يجرؤ حتى في ولاية برلين الليبرالية لا الحزب الديمقراطي الاشتراكي ولا حتى حزب اليسار والخضر على إلغاء حظر الحجاب المثير للجدل بمبادرة خاصة من هذه الأحزاب التي فضَّلت بدلًا عن ذلك انتظار حكم القضاء من المحكمة الدستورية في كارلسروه. ولذلك فإنَّ بإمكان مَنْ يتساءل لماذا يبتعد بعض المسلمين في ألمانيا عن السياسة الألمانية أن يجد هنا الجواب على هذا السؤال.

لقد تحوَّلت في هذه الأثناء المعركة من أجل الحجاب من داخل المدارس إلى مجالات أخرى، حيث أدخلت في السنين الأخيرة بعض الولايات الاتحادية الألمانية قوانينَ جديدةً تحظر على القاضيات والمدَّعيات العامات وحتى على المُتدرِّبات في مجال القانون والقضاء ارتداء الحجاب داخل قاعة المحكمة.

لا يزال الحجاب موضوعًا مثيرًا. بيد أنَّه اليوم لم يعد الموضوع الوحيد الذي يثير ردود فعل مبالغًا فيها. فقد حلَّت الآن موضوعات مثل الحرب على "ثقافة الصحوة" وَ"ثقافة الإلغاء" وغيرها من التجاوزات المفترضة في سياسات الهوية المزعومة والمبالغ فيها محلَّ الحجاب باعتباره الموضوع الأوَّل المثير للخوف.

 

 

دانيال باكس

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de