ثورة الياسمين تعيد الروح إلى المكتبات التونسية

بانهزام الديكتاتوريّة في تونس أثرى كمّ هائل من المؤلفات القيّمة، التي كانت ممنوعة، الساحة الأدبية التونسية وازداد إقبال الناس على القراءة، كما يوضّح محمد بن رجب لقنطرة، ويضيف: "التّاريخ وحده كفيل بغربلة الإنتاج الضحل".

Von محمد بن رجب

تعرَّض الكِتاب في فترة ما قبل الثّورة التونسيّة إلى حملات عنيفة من المراقبة والوصاية والمصادرة و"الصنْصَرة " (أي الحجب والمنع) وظلّ محكوماً بقيود التّأشيرة شرطًا أساسيًّا للنّشر، كما أُغلِقت دونه الحدود حتّى لا يتسرّب من الخارج كالسّلاح والمخدّرات وغيرهما من الممنوعات.

وهكذا افتقرت السّاحة التّونسية طيلة العقود الماضية إلى الكِتاب الحرّ، وفُسِحَ المجال واسعا للمنشورات الموالية والموافقة والمصفِّقة والمنافقة التي حازت الرّضاء والدّعم، ورُفِعت اليد باحتراز على الكِتاب المحايد- حيث لا حقّ لمحكوم في معصية الحاكم – فافتقرت السّاحة الثّقافية إلى الكتاب الذي ينشده القارئ الواعي، فكان القحط، وكان الجفاف الفكري، وظلّ المثلّث المحرّم:(السياسة والدّين والأخلاق) قائماً، لا أحد يجرؤ على تفكيكه. وهكذا كان: فوافق البعض، ونافق آخرون، وغادر غيرهم البلاد، وخالفت ذلك فئة قليلة فدفعت فاتورة باهظة.

وبعد نجاح الثورة التونسية وهروب الرئيس زين العابدين بن علي يوم 14 يناير/ كانون الأول 2011 تنفّس المواطن التونسي نسمات الحرية في أبهى مظاهرها، فتحوّل ما كان محظورا إلى مباح حيث تقرر عدم إخضاع عملية توريد الكتب والمنشورات والأفلام إلى أي ترخيص مسبق وهو ما يؤكد تعزيز حرية الرأي والإعلام.

وتميزت فترة حكم الرئيس بن علي بالرقابة القاسية على جميع المنشورات وظلت العديد من العناوين ممنوعة عن المواطن التونسي: كتب ذات توجه ديني واجتماعي وسياسي. ومن أشهر الكتب الممنوعة من دخول تونس والتي تُعرِّض صاحبها للمساءلة والملاحقات القضائية تصل حدود السجن: كتاب الشيخ السعودي عائض القرني "لا تحزن".

تاريخ منع الكتب في إفريقيا

تعرض الأديب الهادي العثماني في حديثه لـ" قنطرة " إلى تاريخ منع الكتب في تونس قائلا :" ظلّ الكتاب في تونس لردح من الزّمن غير قصير محكوما بمقولة العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون: "إنْ أنت نزلت إفريقيا، فإمّا أن توافق، أو تنافق، أو تغادر البلاد"، ذلك أنّ السّلطة في ما مضى كانت تخاف الفكر وتخشى المثقَّف وتعاديه، وترى في الكتاب مهدِّدا  لها، لأنّه في وهمها الوسيلة الخطرة والخطيرة التي يتواصل بها الجمهور العريض، متوجّسة من أن يكون باثّا للوعي منيرا للعقول، مثيرا للشّعب على الديكتاتوريّة ممّا لا يوطِّد للسّلطان بقاءه على العرش، والتّاريخ يشهد أنّه كلّما تجبّر السّلطان واستشرى الطّغيان، صمت الكُـتّاب واحتجب الكِتاب ".

كتاب "لا تحزن" بثلاث لغات العربية والألمانية والإنكليزية: تميزت فترة حكم الرئيس بن علي بالرقابة القاسية على جميع المنشورات وظلت العديد من العناوين ممنوعة عن المواطن التونسي: كتب ذات توجه ديني واجتماعي وسياسي. ومن أشهر الكتب الممنوعة من دخول تونس والتي تُعرِّض صاحبها للمساءلة والملاحقات القضائية تصل حدود السجن: كتاب الشيخ السعودي عائض القرني "لا تحزن"، كما يطلعنا محمد بن رجب.

عودة الروح

وبدأت المكتبات، ليس في تونس العاصمة فحسب بل حتى في الجهات الداخلية حيث نظمت معارض للكتب الممنوعة في عدد من المدن ففاق الإقبال التوقعات وتركزت الشراءات أساسا على الكتب الدينية وأغلبها من مؤلفات زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي إلى جانب مؤلف نيكولا بو "حاكمة قرطاج" و "صديقنا بن علي " .

ويشير الأديب العثماني إلى أنه " لمّا أذن الله بالثّورة المفاجئة تحرّر الكُتّاب من قيودهم، وخرج الكِتاب من قفص الاتّهام، غير أنّ عائقا من رواسب الماضي بقي قائما متمثّلا في ظاهرة إعراض القارئ عن الكِتاب لما ناله في ما مضى من أسباب الاستقالة عن القراءة وتهميش المثقّفين من الشّباب، وهذا مؤسف حقا "، مؤكداً أنه "في الحقيقة فإنّ هذا الفيض الطّافر من الإنتاج والنّشر والتّوزيع للكتاب في السّاحة التّونسية لم يكن على نفس الأهميّة والقيمة من حيث مستوى الكمّ والكيف. ومن خلال إطلالة على معرض الكتاب الأخير، وبعد جولة عجلى في المكتبات، يُلاحَظ جليّا الحضور المكثّف لأصناف من الكتب المهتمّة أساسا بالسّياسة والدّين، سواء أكانت مُنتَجَة من داخل البلاد أو وافدة من الخارج" .

وشهدت المكتبات التونسية ومنها التي عرفت خاصة بتوفير الكتب ذات المضامين المتنوعة و المختلفة، السياسية منها والدينية والاجتماعية والثقافية والتربوية، حياة جديدة بعد سبات تواصل لأكثر من عقدين خلال حكم بن علي وحتى قبل ذلك إبان حكم الرئيس بورقيبة فازدانت واجهاتها بالمؤلفات التي كانت ممنوعة وأقبل المثقفون وحتى الباحثين عن أسباب منع بورقيبة وبن علي لهذه الكتب أو الراغبين في معرفة أسرار قصر قرطاج من خلال "حاكمة قرطاج"، فكان الإقبال كبيرا والشراءات عديدة برغم ارتفاع أسعار بعض الكتب ومنها خاصة "حاكمة قرطاج" الذي بيع بنحو 24 دينارا (16 دولارا ) وتم اقتناء أكثر من ألفي نسخة من مكتبة واحدة خلال أيام.

على واجهات المكتبات

وسط شارع بورقيبة في قلب تونس العاصمة احتلت الكتب الممنوعة واجهة "مكتبة الكتاب" التي تعجّ بالباحثين والسائلين عن عناوين معينة، فتمّ توريد الكتب المطلوبة في أكثر من مرة وتمّ تحديد قائمة بالمنشورات لتوفيرها وهو ما عبّر عنه مسؤول "مكتبة الكتاب" عادل الحاجي الذي تحدث لـ" قنطرة " عن الإقبال الكبير على الكتب الممنوعة بعد الثورة التونسية وهو يتواصل يوميا من خلال السؤال عن عناوين معينة كانت ممنوعة قبل ثورة 14 يناير 2011 .

بعد الثورة فاق الإقبال على المكتبات التوقعات وتركزت الشراءات أساسا على الكتب الدينية وأغلبها من مؤلفات زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي إلى جانب مؤلف نيكولا بو "حاكمة قرطاج" و "صديقنا بن علي"، كما يرينا محمد بن رجب.

وأبرز عادل الحاجي دخول قراء جدد على خط القراءة بعد أن كانوا يعتقدون أن لا فائدة ترجى من الكتاب أو مثلما سوّق لذلك النظام السابق الذي جعل المثقف التونسي يعيش حالة من الاضطراب و الاستلاب، ويعتقد أنه يعيش الحرية وبالتالي لا مكان للكتاب مؤكدا أن النظام كان يحاصر الكاتب والكتاب والقارئ والمثقف وبالتالي يصادر مصادر المعرفة وهو ما جعل القارئ يتحول إلى مرحلة الانفعال والشبقية التي لازمته حتى بعد الثورة، إذ أصبحت الأحداث المتسارعة توجهه إلى كتب معينة، ويطالب بعد الثورة وأمام الحديث عن العلمانية واللائكية عن مؤلفات تعنى بهذه المضامين، ثم يتحوّل إلى كتب تعتني بالتنظم والأحزاب السياسية، فقد تجاوزت الأحزاب في تونس المئة وخمسين حزباً، ثم كتب الإسلامي السياسي بعد تعالي الحديث عن مفاهيم لم يعهدها.

لكن يس مورو وهو صاحب مكتبة أوضح لـ"قنطرة" أنّ الإقبال في البداية كان كبيرا من طرف القراء "الجدّيين" والقراء "المناسباتيين" الذين اصطدموا بارتفاع أسعار الكتب التي وصل سعر بعضها إلى 25 دينارا ( 16 دولارا) وهو ما جعلهم ينسحبون فلم يبقَ غير بعض المثقفين والمدرّسين الذين أصرّوا على اقتناء بعض العناوين التي كانت ممنوعة.

القارئ الدخيل

أما القارئ " الدخيل " و "الفضولي" يقول الحاجي: "لقد أقبل بنهم في بداية" عهد الانفتاح الثقافي "ثم هجر المكتبات بعد حصوله على " صديقنا بن علي " و "حاكمة قرطاج " كأنما عاد إلى مرحلة الإحباط والاستلاب التي كان يعيشها سابقا".

ويبرز أنّ الكتب الممنوعة لم تقتصر على الكتب الدينية على غرار كل كتب جمال البنا فحسب بل بلغ المنع كل المؤلفات التي يرى فيها الحاكم بأمره "تمسّ من هيبة الدولة ومن سلطان عرشه "، ومن ذلك كتب الإعلامي التونسي صافي سعيد  ومنها "خريف العرب" و"سنوات المتاهة " و "الحمّى 42" و "بن بلّة يتكلم " و "بورقيبة، سيرة شبه محرمة" و "المضاد الحيوي" و "سنوات البروستاتا" الذي يتصدر غلافه صورة للرئيس بن علي وزوجته .. والوزير السابق في عهد بورقيبة الحبيب بولعراس وقراءته لتاريخ تونس من خلال كتابه " تاريخ تونس" الذي شهد إقبالا كبيرا من القراء.

الكتب الممنوعة في عهد بن علي لم تقتصر على الكتب الدينية على غرار كل كتب جمال البنا فحسب بل بلغ المنع كل المؤلفات التي يرى فيها الحاكم بأمره "تمسّ من هيبة الدولة ومن سلطان عرشه"، كما يطلعنا محمد بن رجب.

ولا يقف منع الرئيس بن علي على هذه الكتب دون غيرها بل أن تعدّت إلى العديد من المؤلفات الأخرى من بينها "برج الرومي" لسمير السالمي والعنوان يحمل اسما لأحد السجون التي يقبع فيها الآلاف من المساجين السياسيين، ويتحدث فيه مؤلفه عن تعذيب الإسلاميين في السجون التونسية من خلال تجارب وحقائق لم يرغب بن علي أن تصل إلى الشعب التونسي، إلى جانب كتاب الإعلامي سليم بوخذير "لماذا سخرت من بن علي؟" وكذلك كتب عديدة أخرى ومن بينها "تقرير تونس الكتاب الأسود" لمنظمة مراسلون بلا حدود و " إنها الثورة يا مولاي" ومؤلفات الشيخ يوسف القرضاوي و أعمال محمد الغزالي و فتاوى ابن تيمية كما أن الكتب ذات المضامين القومية التي تنظر لفكر الثورة العربية ومنها كتب المفكر القومي عصمت سيف الدولة، ولم تُسْتَثْنَ حتى الكتب ذات التوجه العلماني واليساري من المنع في عهد الرئيس بن علي.

مؤلفات ضحلة

وأوضح الأديب العثماني أنّ: "بعض القرّاء أقبلوا بلهفة وحماس على هذه الكتب، ولكنّ ظاهرة الكتب المراوغة قد برزت بصورة جليّة من حيث العدد لتكون غُثاء يشوب الإنتاج الجادّ ويغرق سوق الكتب بالمؤلفات الضّحلة المحتوى تحت عناوين جذّابة ذات بريق مخادع تتّكئ على بهرج زائف لإغراء القرّاء، راكبة على الحدث السّياسي أو مُتجَلبِـبَةً بالدّين لإغواء من يجرفهم تيّار التّطرّف الإيديولوجي حيث كان محتواها أطروحات تافهة لا تتجاوز أحيانا مجرّد مقالات صحفيّة بسيطة ومباشرة وقع جمعها بلا منهجيّة مقنعة، أو هي تنظير دينيّ ماكر ومحتال لغسل أدمغة الشّباب بمخاطبة العاطفة واستثارة الحماسة لبثّ دعوات مذهبيّة مريبة".

وهذا ما يمثّل تهديدا جدّيّا للفكر الحرّ والإبداع المفيد، غير أنّ كلّ هذا لا ينفي المكسب الثّمين الذي تحقّق للكتاب إثر الثّورة بانهزام الديكتاتوريّة، فقد أثرى الساحة كمّ هائل من المؤلفات القيّمة بعد رفع التأشيرة وفتح الحدود، فلْيكتب الكُتّاب ما شاؤوا كما شاؤوا، والتّاريخ وحده كفيل بغربلة الإنتاج وإلغاء ما لا يرتقي إلى مرتبة ما يخدم الثّـقافة الحقيقيّة والفكر الإنسانيّ الخالد، ولكنّ ما ينفع النّاس يبقى وأمّا الزّبد فيذهب جفاء.


 

محمد بن رجب - تونس  

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2013