هذا الجيل العربي القادم من المستقبل...

استضافت أكاديمية الفنون الألمانية في برلين بمناسبة جمعها السنوي المدونين التونسيين لينا بن مهني وياسين عياري، للحديث عن مسار التغيير في تونس. رشيد بوطيب حضر اللقاء وتفاجأ بحضور مثالين لجيل عربي جديد لا يخشى محاورة الآخر ومواجهته بالأدلة والحجج بعيداً عن فخ الأحكام المسبقة.



لم تكن تعرف ما الذي ينتظرك. حسبته لقاء كبقية اللقاءات التي تدخل في باب المجاملة أو الصدقة وتعزف عن طرق باب الحوار. تلك اللقاءات التي درجوا على تنظيمها هنا وهناك، كجزء من ديبلوماسية عقيمة، تعيد إنتاج الأزمة أكثر مما تجترح السبل لتجاوزها، أو على الأقل تفتح نقاشا بناء حولها. ثم تفاجأت لوضوح الطرح ودقة العبارة وعمق الرؤية وللروح النقدية المتقدة لهاذين الشابين التونسيين وأمام هذا الجمهور الذي لا يعرفونه في العاصمة الألمانية. فألفيت نفسك تلهج في صمت: لو أن خمس شباب العرب مثلهما، فلن نضطر للخوف على مصير الثورة ولا للقلق على مستقبل الأجيال القادمة.

تدوين لزمن التغيير

تعرفهما وسائل الإعلام كمدونين شابين كسرا حاجز الخوف ورافقا الثورة وأرخا لها منذ انطلاقتها الأولى. كانا صوت من لا صوت لهم، كانا النافذة المشرعة على العالم، لعله يقرأ، لعله يرى، ولعله يفهم ما يقرأ وما يرى..
حضرت لقاءات كثيرة فيما مضى، كتاب ومفكرون عرب حضروا إلى ألمانيا، إلى مدن مختلفة، كانت أفكارهم مهلهلة، اعتلاها الغبار ونخرت عظامها الأيديولوجيا. تمارس الشطح بدل النقد. كانت آلامهم وخيباتهم فادحة، تجاوز أغلبهم العقد السادس أو السابع، لم يعد على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. ذهب الحيل وانكسر العود وجف النبع، وتقطعت بهم السبل.. "تشاؤم العقل" دون "تفاؤل الإرادة".. عقود مهلكة، تحت نير الديكاتوريات أو في المنافي الباردة، فعلت فعلها فيهم، بعضهم رحل عنا وبعضهم رحل عنا وهو يراوح في مكانه ويجتر لغته وأقانيمه الميتة.

فكر جديد لمرحلة جديدة

إنتهى زمن الديكاتاتوريات، الذي يجب أن نطويه بحكامه وأحكامه، بمثقفيه وأئمته، نخبه وأحزابه، وهو ما لا يمكن بلوغه، إذا لم نقطع مع طريقة تفكير متجذرة عندنا، وأعني نظرية المؤامرة، التي تنتشر من على صفحات الجرائد ومنابر المساجد وحتى قاعات الجامعات ومؤتمرات الأحزاب وخطب الحكام الركيكة ، وهو ما أراه يتحقق في كلام هذين المدونين التونسيين، كلام واضح لكنه عميق، لا يلجأ إلى استعمال مصطلحات كبيرة، ولا يركب نظريات لا نفهمها، ولا يذكر الله بين كل كلمة وكلمة، فهو فكر قطع مع زمن الخوف، إذ لا فكر في ظل الخوف.

كما أنه فكر لا يخشى محاورة الآخر ومواجهته بالأدلة والحجج لا بالأحكام المسبقة:"كيف يمكنكم الزعم بأنكم مع الديمقراطية في وقت تبرمون فيه اتفاقيات مع حكومات غير منتخبة؟". "لا نطلب منكم مساعدات، نريدكم فقط أن تحترموا مبادئكم الديمقراطية". بهذه الكلمات تكلم المدون التونسي، وكلمات أخرى أكثر قوة، وجهها إلى ممثلين عن النظام التونسي حضروا اللقاء، ذكرهم بما يحدث اليوم في تونس من محاولة للإلتفاف على الثورة، عارضا صورا مباشرة للمظاهرات في شارع الحبيب بورقيبة وللقمع الأمني في اليوم نفسه.

تونس أمام قدرين: إسقاط النظام أو الاكتفاء بأنصاف الحلول وما يمكن أن يكون لذلك من نتائج كارثية. لكن ياسين ولينا وشباب تونس الذين عاشوا الثورة وشاركوا فيها ومازالوا يحملون لواءها في كل مكان، لا يريدون التوقف في منتصف الطريق، فهم يريدون لهذه الثورة التي ألهمتنا جميعا، أن تستمر حتى تطوى صفحة الماضي السوداء، وتنعم تونس، ولما لا نحن جميعا بالديمقراطية والحرية.

رشيد بوطيب
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011