محمد أركون: إحياء التنوير العربي ضروري للخروج من محنة الحاضر

اعتبر المفكر الجزائري الراحل محمد أركون أن الإسلام تميز منذ إطلالته باحترامه لتنوع الأفكار وبتشديده على ضرورة توظيف العقل بعيداً عن ضجيج الأيدولوجيا وتغييب الفكر النقدي. موقع قنطرة يعيد نشر هذا الحوار القديم مع المفكر الكبير حول ماهية الإصلاح الديني نظرا لراهنيته ولمركزية هذه الإشكالية في الخطاب الإسلامي المعاصر.

Von رشيد بوطيب

قليلة هي الأسماء الفكرية في الثقافة العربية التي استطاعت أن تتحرر من لعنة القراءة الأيديولوجية للتراث، وتنفتح على الآخر ومتطلبات الحداثة من دون عقد نفسية على غرار الشعور بالنقص والميل المَرضي إلى تضخيم الأنا، بل وتساهم في إبداع منهجية جديدة لقراءة النصوص وتاريخ الأفكار.

ولا ريب أن المفكر الجزائري الأصل محمد أركون أحد هذه الأسماء المميزة. لكن محمد أركون ليس قارئا للتراث فحسب، بل هو فيلسوف متابع بشكل نقدي لمجرى وتحولات الفكر الإنساني العالمي، وقد أصدر أكثر من ثلاثين كتابا من مثل:"الإسلام والعلمانية"، "الفكرلا الإسلامي: قراءة علمية" أو "قراءات القرآن". كما درّس لأكثر من ثلاثين السنة في جامعة السوربون الفرنسية العريقة التي التحق بها طالبا في الستينيات بعد قدومه إلى فرنسا من الجزائر. موقوعنا إلتقي به في لقاء خاص.

فيما يلي النص الكامل للحوار:

تتحدثون في كتبكم عن عصر التنوير الأول، أو ما تسمونه بـ"الانسانوية العربية". ألا يمثل ذلك نظرة رومانسية إلى الماضي، أو كما قال حسن حنفي، المجال العربي الإسلامي لم يعرف لا مفهوم الإنسان ولا مفهوم التاريخ؟

محمد أركونعصر التنوير. إنها الكلمة التي يطلقها الأوروبيون على الثورة السياسية والثقافية التي تحققت في القرن الثامن عشر في أوروبا والدول الأوروبية الكبرى مثل بريطانيا، فرنسا، ألمانيا وهولندا. والعلاقة بين هذا العصر وما سبقه، هي علاقة يطبعها الاستمرار والقطيعة. فالله كما يقول القرآن، "هو الذي أخرجكم من الظلمات إلى النور" من ظلمات الجهل إلى نور معرفته. إن كلمة التنوير استعارة قديمة يمكن أن نعود بها إلى الديانة المانوية.

لكن أنوار القرن الثامن عشر سيتم استغلالها من طرف البورجوازية الصاعدة من أجل بدء مشروعها الاستعماري، وهو مشروع ينحرف عن الهدف الأساسي للأنوار التي كانت رسالة إلى البشرية بأكملها. والتنوير ليست قطيعة راديكالية مع الماضي، بل إنها فلسفة تستعمل مفاهيم استعملت في السابق من طرف الدين، لكنها من ناحية أخرى تقول بأن العقل لن يخدم من هنا فصاعدا الدين، بل إنه سيخضع الكلام الإلهي نفسه للدرس العلمي، وهذا هو الجديد. إذن الأمر يتعلق بقطيعة واستمرار. لكن منذ البداية هناك استغلال سياسي لرمزية عصر التنوير من أجل استعماله لأغراض التوسع السياسي والاقتصادي.

 

......................

طالع أيضا:

الأديان في خدمة الإنسان في ظل عودة الشعبويات وهوس الهويات

التسامح والازدهار الإسلامي في عصر العلامة الأندلسي ابن عربي

"ليس لنا ملجأ سواك يا الله"...فيروز تصلي من أجل شفاء العالم

.....................

 

ما اصطلح عليه في الأدبيات الاستعمارية "الرسالة التحضيرية". لكن ماذا عن عصر التنوير العربي؟

محمد أركون: لا بد من الإشارة بدءا بأن الحضارة العربية تميزت بالتعدد. بغداد كانت مدينة عالمية. لقد كانت بالنسبة للقرون الوسطى مدينة كبيرة جدا، تطور فيها ما نصطلح عليه اليوم التعدد الثقافي، وتطورت بها شروط تنوير للعقل وبناء عقل نقدي. كانت هناك أنوار، لكنها أنوار لا يمكن مقارنتها بما حدث في أوروبا خلال القرن الثامن عشر. فالقرن الثامن عشر استفاد من إنجازات القررن الوسطى في مجال العلوم الفلسفية والدينية، بل داخل هذه الأنوار نفسها يمكن الحديث عن حقب فكرية متعددة، فابتدءا من النصف الثاني للقرن التاسع عشر جاء ماركس لينتقد العقل المثالي ويؤسس لعقل جدلي، ونيتشه الذي انتقد القيم وعبادتها واعتبرها بنت محيطها، وأنها تتغير بتغير المحيط الاجتماعي، دون أن ننسى فرويد واكتشافه لحياتنا الداخلية. إنها إذن آفاق أخرى للأنوار، لكني أتساءل إن كنا مقبلين اليوم على حقبة تنويرية جديدة تتضمن تحريرا للأنوار من قبضة النزعات الاستعمارية للبرجوازية.

تحدثم عن عنف عصر التنوير، ولكن ما رأيكم بالعنف الصادر عن الخطاب الأصولي. أو ما تسمونه بالانحراف الأيديولوجي، ألا يعود ذلك العنف إلى نزعة هذا الخطاب الراغبة بتغيير العالم؟

محمد أركون: أعتقد بأنها رؤية مبتسرة لمشكلة العنف. ذلك أن العنف بعد أنثروبولوجي للكائن الإنساني وللكائن الحي عموما. فالعنف موجود منذ وجود المجتمعات البشرية والعنف محدد للسلوك البشري. الأحزاب السياسية مثلا هي أركسترا للعنف. ولم نحاول أن نظهر العلاقة بين العنف وبين قوى أخرى لم يستطع الإنسان التحكم بها، وهذه القوى التي تعمل داخل كل مجتمع هي المقدس والحقيقة. الحقيقة التي يتضمنها النظام الديني القائم على الاعتقاد واللا اعتقاد. ذلك أن اللااعتقاد هو ما سيحدد هوية الدين الجديد. وهكذا يتأسس الدين منذ البداية على مظاهر عنف يتم التعبير عنها عن طريق الحقيقة. وهذه الحقيقة تقوم على العنف. تقول لأتباع الدين بأنه لا وجود إلا لعقيدة واحدة وإله وحيد.

هذا مثال من الدين، وهذا مثال من الايديولوجيا: لينين يستولي على السلطة باسم البروليتاريا وكل الآخرين يجب أن يخضعوا لسلطة البروليتاريا التي تمتلك الحقيقة، وهذا يحدث في قلب عصرنا. لهذا أعتقد بأننا نحتاج إلى أنوار جديدة تقول للجميع بأن هناك حقائق كثيرة، وتنزع صفة المقدس عن الحقيقة. والمقدس وظيفة الدين، الذي سيخلع القداسة على ما يقوله، ليتحول إلى أمر غير قابل للنقاش. والحقيقة أيضا في النظام المعاصر تتسم أيضا بالقداسة، وعملية خلع صفة المقدس على الحقيقة تتم عن طريق الأعياد والاحتفالات الرسمية والبنايات... إن هذا ما أسميه بالمثلث الأنثروبولوجي. وما قلته عن هذه القوى الثلاث: العنف، الحقيقة، المقدس، نجده في المجتمعات القديمة كما نجده في المجتمعات الأكثر عصرية.

 

[embed:render:embedded:node:36325]

 

وماذا عن الصعود القوي للخطاب الأصولي؟ ما العمل من أجل وقف انتشار هذه الإيديولوجية؟ هل على العالم العربي أن يقف إلى جانب سياسة الرئيس الأمريكي جورج بوش؟

محمد أركون: أنا جزائري، وعشت حرب التحرير كما عشت بألم كبير الحرب الأهلية الأخيرة، والتي أعرف بأنها نتاج استقلال مصادر من طرف نظام الحزب الوحيد. يجب أن نعرف الأصول التاريخية لنظام الحزب الوحيد والذهاب أبعد من ذلك إلى دراسة النظام السلطوي في كل الدول التي لم تعرف تنويرا. يجب أن نبدأ أولا بطرح أسئلة على القرآن وعلى الطريقة التي يقرأ بها القرآن، خصوصا من طرف هؤلاء الأصوليين الذين عاشوا في مدرسة الاستقلال والحزب الوحيد.

وبالنسبة للشق الثاني من السؤال، فالإشكالية التي نعيشها منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 إشكالية معقدة، يجب أن نعالجها بعقل نقدي، إلا أن ردود الفعل حول هذا الحدث ظلت في أغلبها عاطفية وإيديولوجية، الخير والشر، الرب والشيطان.. حتى في الخطاب الأمريكي. لا يجب أن ننسى بأن الرئيس الأمريكي أول من استعمل مثل هذا المعجم وسمح لنفسه، بعد أن تم طي صفحة الاستعمار، بغزو بلد، محاولا إجباره على الدخول في النظام الديمقراطي، رغم أنه لا يملك وسائل تسمح له بذلك. إنه إنحراف. فكيف نفرض نظاما ديمقراطيا على بلد لا تملك الأسس الأولية التي تحدد النظام الديمقراطي، وعاشت لأكثر من ثلاثين سنة تحت حكم ديكتاتور أشبه بـ"الغول".

لكن من جهة أخرى كيف نطلب من الولايات المتحدة أن لا تتدخل مادام الأمر يتعلق بمثل هذا النظام الديكتاتوري؟ إن هناك واجبا للتدخل. الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران يقول بأن واجب عدم التدخل يتوقف إذا ما كان الآخر يتعرض لخطر ما. أنا مع التدخل إذا تعلق الأمر بأنظمة ديكتاتورية. لكن من خلق هذه الأنظمة؟ لا غرو أن هناك تورطا للدول الكبرى، لكن هناك أسبابا داخلية، الأسس الدينية والثقافية لهذه الدول المارقة.

 

أجرى الحوار رشيد بوطيب

حقوق النشر: موقع قنطرة 2017 

 

 

اقرأ/ي أيضًا

الإسلام واليهودية...ثمار تلاقح الأفكار المستنيرة

الإنسانية بدلاً من هوس الهوية.. كيف نقرأ اليوم فكر إدوارد سعيد النقدي؟

"من يعرف دينا واحدا، لا يعرف أي دين"...باريس تحتضن حواراً فريدا من نوعه بين الأديان

حوار الثقافات والأديان...ثمرة لقاء الحكمتين اليهودية والإسلامية