محمد شحرور: يجب التركيز على أولية الحرية في العالم العربي

يرى الباحث السوري في الدراسات الإسلامية محمد شحرور أن المسلمين في العالم العربي بحاجة إلى حركة تنويرية جديدة، تخترق ثوابت القرون الإسلامية الأولى، لترسيخ مفاهيم مثل التعددية والحقوق الدستورية.

Von محمد شحرور

​​ حين أدعو إلى "إصلاح فكري ثقافي ديني أولاً" إنما أفعل ذلك رداً على دعاة الإصلاح السياسي الذين يتجاهلون – لسبب أو لآخر – أهمية العامل الديني في تشكيل الثقافة العربية والوعي العربي، أهمية تبدو واضحة الأثر والتأثير في الحاضر والماضي، أهمية لاينفع التجاهل في نفي وجودها. فالإصلاحات يجب أن تسير – كما أرى – على نسق في وقت واحد معاً وليس على رتل. بعبارة أخرى لايجوز – بل لايمكن عملياً – إخضاع الإصلاحات لقائمة أولويات. من هنا، يصبح واضحاً تماماً ما أعنيه بقولي إن الدين هو المُكوّنُ الأساسي في الثقافة العربية، وإن أي إصلاح ثقافي في العالم العربي لابد وأن يمر عبر بوابة إصلاح ديني، اعتدت أن أسميه في كتاباتي "إصلاحاً دينياً" ، يتم من خلال قراءة الأحكام والنصوص الدينية قراءةً معاصرةً بعيداً عن التفاسير والاجتهادات التراثية. لقد تحالف – منذ القرن السابع الميلادي – هامانات المؤسسة الدينية مع فراعين المؤسسة السياسية على تحويل ما جرى من أحداث وما ساد من ثقافة وفقه في القرنين السابع والثامن إلى دين يقر الاستبداد ويكرسه، ويربط طاعة الحاكم المستبد بطاعة الله والرسول، ويلزم الناس بطاعة "ولي الأمر" وفق تعاليم تلبس أحياناً لباس الحديث النبوي (ولاندري هل هي أحاديث نبوية أم أموية؟!)، وأحياناً أخرى لباس الأحكام الفقهية.

شرعية الاستبداد ه

ذه الثقافة التراثية الفقهية بالذات – التي امتدت وتراكمت زهاء ثلاثة عشر قرناً، بدءاً من معاوية وانتهاء بالسلطان عبد الحميد العثماني مروراً بالأمويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين – هي التي نعيشها ونعيش عليها اليوم ونحن نتاجها المباشر. وحين أطاح أتاتورك بنظام الخلافة منذ قرن تقريباً، لم يكن ذلك غيرة على الديموقراطية والعدل والمساواة التي ذبحها حكم الفرد المستبد باسم الخلافة، فقد ذهبت الخلافة كشكل، وبذهابها ذهب مفهوم شرعية الاستبداد، وبقي مضمونها الاستبدادي حياً في الفكر العربي والإسلامي وبالتالي في الأنظمة العربية كافة، فمصطلح المستبد العادل ما زال شائعاً في الثقافة العربية الإسلامية، ومازالت الأنظمة العربية إلى الآن تعيش نقصان الشرعية وهذا ما جعل كثير من الناس إلى الآن لايقاومون الحكم الاستبدادي إذا تم تحت شعار مايسمى العدالة أو الوطنية، الأمر الذي يفسر لنا عدداً من الظواهر لايمكن تفسيرها بدونه: عدم وجود فقه دستوري راسخ في التراث، وبالتالي انعدام الوعي الدستوري لدى الناس.

والسبب هو أن الفقه الدستوري يحتاج إلى إبداع، والإبداع معدوم في ثقافتنا الموروثة القائمة أساساً على النقل والتلقين والتقليد. وبالعكس وجود تراث هائل حول الخضوع والطاعة لأولي الأمر. وقد راجعت التراث الفقهي القديم والحديث عَلَّني أجد فتوى تجيز الخروج على المستبد حتى ولو كان مسلماً من أجل الحرية للناس جميعاً، فلم أجد خلال هذه القرون الطويلة بل وجدت العكس تماماً وهو الخضوع وتقبل الأمر الواقع. تقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام دون أن يدخل المستبد في خانة الكفر.

إن مفهوم ( كل شيء مكتوب سلفاً) والتخريجات حول هذا الموضوع التي نسمعها دائماً هي التي حولت الإنسان العربي المؤمن إلى آلـة فالعمر محدود والرزق مكتوب . عدم احترام الحياة الإنسانية، فالإنسان إذا كان محباً للحياة لايرغب بالموت، فعليه أن يشعر بالذنب. ومن جراء مفهوم كل شيء مكتوب سلفاً، وأن الأساس عدم حب الدنيا، هذه المفاهيم شكلت شيئاً اسمه ثقافة القطيع. فالإنسان إما شاة، وإذا شذَّ أصبح ذئباً فيذهب ليقتل نفسه والآخرين معه. عدم وجود إحساس عميق وراسخ بقيمة الحرية في الوعي الجمعي الإنساني التراثي عامة والعربي والإسلامي خاصة، هذه القيمة التي تبلورت جوانبها وأخذت معانيها على مختلف المرتسمات في العصور الحديثة. أما تراثياً فقد اختلطت مع العدالة والمساواة. فالثورة الفرنسية – كما أراها – حركة إصلاح ضخمة تهدف في جوهرها إلى المساواة، ومثلها الثورة البلشفية في روسيا، حركة إصلاح تهدف إلى العدالة.

مفهوم الحرية

لقد ظلت الحرية زمناً طويلاً لاتعني في الفكر أكثر من نقيض للرق، فالحر هو الذي لايباع ويشترى في أسواق النخاسة. لكننا لانشك أبداً في أن عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، حين أطلق منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً عبارته المشهورة " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، كان سابقاً لعصره في استشفاف معنى العدالة والمساواة ضمن مصطلح الحرية، فهو لم يقصد استنكار استعباد الناس بالرق، بدليل أن نظام الرق كان سائداً في عصره، ولم نسمع أنه فعل شيئاً كخليفة لإلغائه. وبرغم ذلك بقي في التراث الفقهي الإسلامي أن الحر هو نقيض الرق لا أكثر من ذلك. وكانت موريتانيا (وهي دولة عربية إسلامية) هي آخر دولة في العالم ألغت الرق عام 1967 بقرار سياسي . ونرى في الأدبيات الإسلامية تشجيع الأحرار على عتق الرقيق، ولكننا لانرى أبداً نداءً للرقيق بالجهاد ضد أسيادهم وتحرير أنفسهم والانتهاء من الرق حيث لايعتبر هذا جهاداً، بل بالعكس نرى أن على الرقيق أن يطيع سيده وأن لايهرب منه. انعدام الشعور لدى الإنسان العربي بأنه يعيش في ظل أحكام عرفية تتجدد آلياً كلما انتهت مدتها، تزعم السلطات الحاكمة المستبدة أنها لازمة لحماية الناس من أخطار الصهيونية حيناً، والشيوعية حيناً، والعلمانية حيناً، وطمس الهوية القومية حيناً والحضارة الغربية الفاسدة أحياناً أخرى.

وسبب قبول الناس وعدم شعورهم بالأحكام العرفية والطوارئ هي القاعدة الفقهية (باب سد الذرائع) فالأحكام العرفية وحالة الطوارئ هي الجانب السياسي لباب سد الذرائع. عدم التمييز بين الإسلام الأصل كما نزل على قلب النبي (ص) والتطبيق التاريخي لهذا الإسلام، أي بين التنزيل الحكيم وكتب التفسير والحديث والفقه، بين إسلام جاء ليتمم مكارم الأخلاق وليؤكد كرامة الإنسان، وإسلام يعتبر كل الآخرين كفرة ويعتبر أنه (لايقتل مؤمن بكافر). وبين إسلام يفتح أبواب الإبداع على مصاريعها، وإسلام يختزل التاريخ والجغرافيا ويقيد العقل بنصوص تراثية يزعم سدنتها أنها تحوي الحقيقة المطلقة في كل زمان ومكان. أي ما حصل في القرن السابع هو الحقيقة المطلقة، وليس الاحتمال التاريخي الأول لتطبيق الدين الإسلامي على مجتمع بدوي. أي أن الإسلام مصدره إلهي جاء من المطلق وتفاعل نسبياً مع الزمان والمكان. فحوى المطلق الإلهي في المحتوى، والنسبي الإنساني في الفهم. عدم قدرة الفكر الإسلامي العربي التاريخي حتى الآن على تحويل قيم الحرية والعدالة والشورى إلى مؤسسات، فبقيت مجسدة من خلال أشخاص بعينهم. والسؤال الآن: كيف يعقل أن نسأل – أو نبحث – عن إصلاحات سياسية في مجتمعات تقولب وعيها وتشكل فكرها عبر القرون على النحو الذي ذكرناه؟

طروحات رومانسية

لقد بدأت في النصف الثاني من القرن الماضي تظهر مشاريع حداثة وتحديث في المنطقة، منها الماركسي ومنها الاشتراكي ومنها القومي والبعثي والليبرالي، ومنها ما هو مزيج من هذا وذاك. لكنها باءت كلها بالفشل، وانتهت بانهيار الإتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وكان أحد أسباب فشلها تجاهل أهمية العامل الديني في تشكيل الفكر والثقافة. وظهرت بالمقابل شعارات تنادي "بحاكمية الله" وبأن "الإسلام هو الحل"، وباءت كلها بدورها بالفشل حتى الآن، ولم تنتج سوى المزيد من الاستبداد والمزيد من العنف الذي بلغ ذروته في أحداث 11/9 في الولايات المتحدة.

وكان السبب الوحيد لفشلها انطلاقها من أرضية فقه إسلامي تراثي تاريخي توهمت أنه يحوي الحقيقة المطلقة وهي بالذات ضحية ثقافة مريضة. وقد تأثرت الحركات الإسلامية السياسية والحركات القومية والتي هي من نتاج عصر التنوير الذي حصل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على أيدي الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما في مصر وسوريا ولبنان والعراق. فقامت حركات إسلامية كحركة الإخوان المسلمين وأحزاب قومية كحزب البعث والقوميين العرب، لكن الطروحات كانت أقرب إلى الرومانسية منها إلى العقلانية. فقد تأثرت هذه الحركات السياسية الإسلامية والقومية بما يسمى بثورة أكتوبر في روسيا، قسمت الكون إلى عالمين، وتشكل لأول مرة في التاريخ المعاصر نظام استبدادي شمولي ( توليتاري).

ولما كان ليس لدى الأحزاب القومية نظرية في الدولة والمجتمع، فقد تبنَّت الأطروحات الماركسية لتؤسس نظاماً شمولياً استبدادياً. ولم يكن تأثر الحركات الإسلامية أقل شدة. فالدولة الإسلامية المنشودة دولة شمولية حسب ما نسمع من طروحات، ودولة طالبان في أفغانستان والملالي في إيران هي النموذج المعاصر للدولة الإسلامية، التي لامكان فيها للحرية الفردية أو الجماعية. والإسلام السياسي ما زال يعيش على خدعة أساسها أن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن، هي نفس الخدعة التي تعيش عليها الأحزاب الشيوعية، حيث سلطة الأمن والحزب والدولة هي التي تحرس النظام وتجبر الناس على الطاعة. وأن ما يطلقون عليه الإسلام الجهادي الذي يمارس العنف خرج من رحم هذه المفاهيم، ولانستغرب الآن تلاحم ما يسمى الحركات الإسلامية والقومية، لأن الفرق بينهما كان في الواجهات فقط . أما ما يطرحه البعض الآن عن "إسلام وسطي" بعد أحداث 11 سبتمبر، فهو "تخريجة" حديثة تتماشى مع الموضة من أجل التسويق الإعلامي. مانحتاجه الآن هو حركة تنويرية جديدة، تخترق الثوابت التي وضعت في القرنين الثاني والثالث الهجريين، ويتم على أساسها ظهور أحزاب جديدة، أو تطوير الأحزاب القائمة، وخاصة فيما يتعلق بنظرية الدولة والسلطة والدستور والتشريع. أما قيام الدول ونهضتها وانهيارها فيخضع لقوانين تختلف تماماً عن الأحكام الشرعية. فلا توجد أحكام شرعية وحتميات تاريخية. فقيام الدول وسقوطها يخضع للبراجماتية (النفعية) والتملك والشروط الموضوعية في المكان والزمان وعبقرية الأفراد والقادة. ووجود قيمة أخلاقية إنسانية يحرص عليها قادة الدول ومؤسسيها كالعدالة والحرية والنهضة والتقدم. وعلينا أن نؤكد أن قيام الدول وسقوطها لايخضع لشيء اسمه الضوابط الشرعية.

الطريق إلى الإصلاح

والسؤال الآن: كيف يمكن – بعيداً عن الأطر الموروثة – استنباط مفاهيم مثل: التعددية، الحقوق الدستورية، الانتخابات، التمثيل البرلماني، فصل السلطات، حقوق المرأة، المساواة وتكافؤ الفرص .. وغيرها، من القرآن الأصل، وزرعها في العقل العربي المسلم بدلاً من جذور رسختها قرون وقرون من الاستبداد السياسي والديني والثقافي والمعرفي؟ مثل: الكافر، المرتد، الزنديق؟ الولايات المتحدة، رغبة منها بعدم تكرار ما حدث يوم 11/9 ، تدعو إلى "إصلاحات"، وكان يمكن لدعواتها الإصلاحية هذه أن تثمر – نظراً لاتفاقها بالمصادفة مع دعوات الإصلاحيين في الداخل – لو أنها تبنت الأسلوب الفرنسي والألماني والبريطاني إلى حد ما، المتمثل في موقف الاتحاد الأوربي من الأوضاع في المنطقة، وقامت بإصلاحات ثقافية فكرية على مدى طويل، على رأسها ترسيخ حقوق الإنسان والحرية في الوجدان العربي، يتمكن معه وبعده أصحاب العلاقة المستهدفين بالإصلاح من إصلاح أنفسهم. وفي تصوري أن الولايات المتحدة قد تنجح بالقوة العسكرية في إزاحة نظام ما واستبداله بنظام آخر، وفي احتلال هذا البلد وزرع قواعدها في ذاك، لكن ذلك كله سيبقى يحمل اسماً آخر لاعلاقة له بالإصلاح. قد تعتقد أمريكا – مع كثير من التفاؤل – أنها نجحت مع طالبان وصدام حسين. ولكن ماذا تفعل مع بقية الدول في المنطقة، وكلها بلدان يحمل كثير من الناس فيها الفكر الطالباني وفكر الملالي وتحمل أنظمتها الحاكمة الفكر الصدامي؟ هناك إذاً من يدعو إلى الإصلاح في الداخل والخارج، ويرى أنه ممكن، سواء في ضوء رؤية أمريكية أو رؤية أوربية. لكن هناك بالمقابل من يرى فيه "مجرد عباءة إصلاحية" تخفي تحتها استعماراً جديداً يهدف إلى طمس الهوية العربية وتفريغ الإسلام من مضمونه.

وهناك إلى جانب هؤلاء وأولئك شريحة أخرى ترى الإصلاح مستحيلاً لا أمل فيه ولا فائدة منه، وأنه بالأساس "عملية تجميل" لأنظمة متفق على بقائها، فالعلة في رأيهم كما يقول روبيسبيير متجذرة في الرأس لا علاج لها إلا بالقطع. ومن هنا يجد المتأمل المراقب الدارس نفسه أمام معان وتطبيقات إصلاحية، تختلف واحدتها عن الأخرى باختلاف المنادين بالإصلاح والداعين إليه أو الرافضين له. أما أنا فأقول إن للإسلام الحالي أربعة جوانب: قيمي وشعائري وتشريعي وجانب رابع هو الجانب السياسي وفيه تكمن المأساة. أما الجانب القيمي – مجسداً بالمثل العليا عموماً في التنزيل الحكيم وبالوصايا العشر خصوصاً في سورة الأنعام 151، 152، 153 – فليس محل خلاف، لأنها قيم يحترمها البوذي ويقدسها المسيحي بذات الدرجة التي يحترمها فيها المسلم ويقدسها. وأما الجانب الشعائري – بما فيه من صلاة وصيام وزكاة وحج – فهو أيضاً ليس محل خلاف، إذ لكل ملة شعائرها التي تشبه في المضمون شعائر كل الملل الأخرى وإن اختلفت في الشكل. فالمسلم يصلي ويصوم، والمسيحي يصلي ويصوم، المسلم يزكي ويحج إلى الكعبة في مكة، والبوذي يتصدق وله مكان مقدس به يحج إليه. تبقى الإشكالات قائمة حصراً في الجانبين التشريعي والسياسي، ليس بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى وحسب، بل بين طوائف ومذاهب الأمة الإسلامية ذاتها. ففيهما يتجلى – تطبيقاً وممارسة – الانحراف والتحريف في فهم التنزيل السماوي الموحى، وفيهما يتجسد الفقه التراثي كأداة من أدوات الاستبداد الديني تدعم الاستبداد السياسي وتبرره، وتجعل من هامانات المؤسسة الدينية حراساً على جسر العلاقات بين الإنسان وربه، وبينه وبين الآخرين، لايمر أمر في الاتجاهين إلا بإذنهم. أو كأداة بيد من يمارس العنف باسم الاسلام معارضاً رجال الدين والسياسة معاً، علماً أن كليهما يحمل نفس المرجعية، وكلاهما انتقائي يختار من التراث ما يناسبه وما يؤيد موقفه.

ثمة من يظن أن بالإمكان تحقيق إصلاحات يتم فيها استبعاد العامل الديني، أو تحييده، كما حصل في الغرب، وأن بالإمكان إقناع الناس بأن حاجتهم إلى برلمانات وتعددية حزبية وصحافة أكبر من حاجتهم إلى مجالس للإفتاء. لهؤلاء أقول، إن الدين في المنطقة العربية والإسلامية هو المكون الأساسي للثقافة والمحرك الأساسي للسلوك. ولا بد لتأصيل وترسيخ هذه المفاهيم من إصلاح إبداعي ديني لتصبح هذه المفاهيم جزءاً منه، خاصة وأن رسوخ الفقه التراثي التقليدي يقاوم ويعرقل أية محاولة للإصلاح والتصحيح. في ضوء هذا كله أقول: أعطني وعياً فكرياً لدى الناس بأهمية الحرية والعدالة والمساواة، والتركيز على أولوية الحرية كما أرادها الله لهم في تنزيله الحكيم، وعياً رافضاً لأوهام الجبرية التي تحوله إلى دمية على مسرح عرائس، يقاتل في سبيل حرية الآخرين ورفع الظلم عنهم، بغض النظر عن انتمائهم الديني والعرقي والسياسي، ولن تبقى في ضوء هذا الوعي إشكالات تضطرك إلى البحث عن إصلاحات. وستنقلب الأطروحة التراثية السابقة إلى "حاكم يخاف من الرعية خير للرعية من حاكم تخافه".

وبالتالي فإني أرى أن مقدمة أي دستور يصدر في بلد عربي مسلم أن تحتوي مايلي: الحرية هي القيمة العليا في العقيدة الإسلامية ولا يعلو عليها أية قيمة وهي كلمة الله التي سبقت لأهل الأرض جميعاً، وفيها تتجلى عبادية الإنسان لله، لاعبودية الإنسان لله. فعبودية الإنسان حتى لله غير مطلوبة أصلاً والكفاح بكل أنواعه في سبيل حرية الاختيار حتى ولو كان المستبد مسلماً مؤمناً هو الجهاد في سبيل الله. لأنه لإعلاء كلمة الله التي سبقت وهي حرية الاختيار التي تتجلى في قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) أي يطيعونه بملء إرادتهم ويعصوه بحرية اختيارهم. والحرية لاتُعرف إلا بالطرف المقابل لها، فآدم عبَّر عن حريته بالمعصية لا بالطاعة، ولو أطاع مباشرة لما عرفنا بأنه يملك حرية الاختيار. إن أحسن آلية توصل إليها المجتمع الإنساني لممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي المعارضة ومنظمات المجتمع المدني وحرية التعبير السلمي والنشر والإعلام لأن الدولة هي المؤسسة التي تحتاج لأن تُؤمَر بالمعروف وتُنهى عن المنكر حيث بيدها المال والجيش والأمن والقرارات . والعدالة كقيمة إنسانية تأتي بالدرجة الثانية بعد الحرية. لأن الأحرار يستطيعون أن يقيموا عدالة ، بينما المستعبَدين الذين لاخيارات لديهم يحتاجون إلى العدالة. ولايوجد في مجتمع الأحرار شيء اسمه الجهاد في القلب، فمنظمات المجتمع المدني تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان والصحافة والمنظمات غير الحكومية وكل وسائل الإعلام والاجتماعات والتظاهر وهي كلها وسائل سلمية، والدولة بمؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد. وإذا أرادت الدولة أن تمارس هذا بنفسها، فهذا يعني أنها ستوجد مؤسسة أمنية اسمها (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

بقلم محمد شحرور

حقوق الطبع محمد شحرور 2006

هذا المقال صيغة مختصرة لمحاضرة ألقاها محمد شحرور في مؤتمر: حقوق الإنسان وتجديد الخطاب الديني، كيف يستفيد العالم العربي من تجارب العالم الإسلامي غير العربي؟ الذي انعقد في الاسكندرية في أواخر أبريل/نيسان 2006.

دكتور محمد شحرور باحث في الدراسات الإسلامية وعضو المنظمة السورية لحقوق الإنسان.