خلط الدين بالدولة تشويه للاثنين

الأمة هي حاضنة الشريعة وليس الدولة أو الدستور، كما يستنتج الأكاديمي خالد الحروب في سياق قراءته لبحث للكاتب رضوان السيد عن الدين والدولة في زمن الثورات العربية، ويرى أنه قد يكون للسياسيين نيات صادقة لكنّ لهم وُعوداً كاذبة أيضاً، فلا ينبغي توظيف الدين في عراكات سياسية قائمة على المساومات.

Von خالد الحروب

في بحث مسهب ومهم بعنوان "الدين والدولة في زمن الثورات: المنظور النهضوي ومطالبه" يقوّض رضوان السيد أحد اهم المرتكزات الأساسية لحركات الإسلام السياسي وهي الزعم بأن الإسلام دين ودولة، محرراً الدين والشريعة من احتكار الأحزاب، ومحرراً السياسة من سيطرة الدين أو التفسيرات الضيقة له.

يتسم بحث السيد هذا، كما بقية أعماله، بالعمق التأصيلي المُتأسس على أرضية إسلامية والمنطلِق من فكرة أن الأمة هيالأصلوهي الحاضنة الطبيعية للدين والشريعة، وهما لا يحتاجان إلى دولة أو حكومة أو حركة سياسية حتى تحتكرهما بدعوى الدفاع عنهما او النطق باسمهما.

التورط النظري ثم العملي الفادح في الزعم بالحكم باسم الإسلام من قبل هذا الحزب أو تلك الحركة معناه زج الدين في معارك سياسية لا تنتهي ولا يمكن إلا أن تُنتِج دماراً وتشويهاً لبعض جوانبه على أقل تقدير، وفي ذات الوقت تعيق السياسة الناجعة واشتغالها على خدمة الناس.

الغَرَق في مسائل الهوية

يضع السيد أصبعه على أحد أهم الاختلالات النظرية التي حرفت العقلية الجمعية العربية والإسلامية منذ نهايات القرن التاسع عشر على أقل تقدير، والتي تطورت وتعمقت على أيدي منظّري حركات الإسلام السياسي لاحقاً، وهي التي نقلت التفكير من "كيف نتقدم" إلى "من نحن"، أي من ميدان العمل النهضوي والعلمي وتحدي التخلف، إلى ميدان الهوية والغرق في الذات والتراث والتاريخ.

القوى اللبيرالية واليسارية في مصر تشعر بخيبة أمل من الدستور الجديد وهي قلقة من احتمالات تأويله بشكل متطرف

​​

وقد تطور الهمّ المصطنع والافتعالي ليصبح إيديولوجيات طاحنة وقاسية لا همّ لها إلا الجدل النظري والسقيم المتمحور حول الهوية والدفاع عنها وإضاعة الوقت والجهد في قضايا وهمية ومتخيلة، بدل التمترس في وجه السؤال الحقيقي والصعب وهو كيف ننهض وننتهي من التخلف.

سوف يقول كثيرون هنا إن مسألة الهوية جاءت من خلال محاولة الإسلاميين الإجابة على سؤال كيف ننهض، إذْ كانت مقاربتهم تقول إن الطريق الوحيد هو العودة إلى الدين الصحيح وسوى ذلك.

لكن من ناحية عملية وبعد ما يقارب من قرن من تلك المقاربة فإن النتيجة هي المزيد من الغرق في مسائل الهوية والماضي والسلفية، ونقلها من إحداثياتها الماضوية ليس إلى الحاضر فحسب بل ولتتربع فوق أعلى مراتب السياسة والتأثير وتسيير الحياة الاجتماعية للبشر: أي لتتسلم سدة الحكم!

الأمة حاضنة للشريعة

يتابع رضوان السيد سيرورات تحكم الهم "الهوياتي" المُفتَعَل في مناهج التكوين السياسي للإسلاميين، ثم تحكمه في حركاتهم وأحزابهم وبالتالي اختزال الإسلام بسبب ذلك في مقولات الحكم بالشريعة أو ضرورة التنصيص عليها في الدستور، بل وإخضاع الدستور لها في كل حيثياته ومبادئه.

قادت هذه السيرورة وتقود إلى سحب الشريعة من الأمة وإيداعها السلطة، وكأن الشريعة والدين دخيلان وخارجيان ويتسمان بالهشاشة والاغتراب عن المجتمع بحيث يحتاجان إلى تدخل دستوري من العيار الثقيل لحمايتهما.

هذا التدخل يقود إلى الكثير من الانحرافات المدمرة التي تعطل الوظائف الجوهرية للسياسة الفعالة من ناحية، ويشوه دور الأمة في احتضان الشريعة بشكلها العفوي ويعمل على تسيسها وتقسيمها.

بعد عقود من حكم القذافي أُجريَت في ليبيا في السابع من يوليو / تموز 2012 أول انتخابات حرة ولم يُفُز فيها الإسلاميون.

​​وعندما يتدخل الدستور والسلطة والدولة والحكومة وكل الأشكال السياسية الحديثة التي تطورت من أجل "الخدمة العامة" بطرق شفافة وفعالة إلى أدوات متوترة لِ "تطبيق الشريعة والدين" فإن ما يضيع في ميدان التطبيق هو اكتمال الخدمة العامة وانشغال الناس فيها، وترسُخ معايير وآليات المراقبة والمحاسبة بناءً على كفاءة الأداء في الخدمة العامة.

ينحرف النقاش وتنحرف الممارسة إلى الغرق الدائم في نصوص الدستور والقوانين وتلاؤمها مع الدين ومقدار حمايتها له، ثم كيف تطبق على الأرض، ثم كيف يراها كل حزب وكل مجموعة وكل مفتي وشيخ دين أو حركي.

وهذا بطبيعة الحال سوف يقود المجتمع كله إلى كارثة من نوع جديد محورها "أي دين وأي شريعة"، وكل من أولئك له فهم خاص بالدين أو الشريعة.

معنى ذلك أن تعددية تفسير الدين والشريعة كما عرفها التاريخ الإسلامي وكما تطورت عنها المذاهب الإسلامية والمدارس الفكرية سوف تتحول في سياق الشكل الحديث للدولة الى أحادية صلبة تعبر عنها نصوص دستورية وسلطوية فوقية سوف تعمل تدريجيا على محاربة التعددية والتنوع.

وذلك لأنَّ النص الدستوري يحتاج إلى تفسير كي يتحول إلى قانون يطبَّق بقوة السلطة، وفي كل حالة يتم فيها ذلك فإن مساحة من التعددية الاجتماعية والتاريخية والممارساتية سوف يتم التضحية بها على مذبح تطبيق الشريعة والحفاظ عليها.

إن المعنى العميق والغني لما يدعو إليه رضوان السيد يكمن في الدفاع عن التعددية التاريخية والفكرية لحقيقة أن الأمة هي حاضنة الشريعة وليس الدولة وليس الدستور وليس الحكومة.

هذه الأشكال الثلاثة هدفها هو خدمة الناس عبر السياسة، والسياسة بالتعريف خلافية ورمادية ومُنشئِة للخلاف والصراع الذي من المؤمل أن يتحول إلى صراع سلمي في حقبة ما بعد الثورات.

أي أن السياسة والصراع والتنافس توائم لا ينفصل بعضها عن بعض، والتنافس بينها، وكثير منه تنافس كريه وغير شريف، هو سمة لا يمكن التخلص منها ويجب الإقرار بها، والوسيلة الوحيدة لتدجينه تكمن في الآليات الديموقراطية.

حركة سلفيو كوستا هي حركة تضم سلفيين وأقباطاً في مصر وتسعى إلى أن يكون السلفيون أكثر انفتاحاً على الآخرين.

​​

نيّات صادقة ووُعود كاذبة

يتنافس السياسيون عبر برامج سياسية تخلط النيات الصادقة، ببعض الوعود الممكن تحقيقها مع وعود كاذبة لا يمكن تحقيقها، وتقوم على تحالفات آنية ومتغيرة هدفها تحقيق مصلحة حزب ما، أو قائد حزب، ويقوم ذلك كله على قاعدة التنافس لخدمة الوطن وخدمة الناس.

بكلمة أخرى تختلط الغايات مع الوسائل، الجيد الحقيقي منها مع السيء والكاذب، وتراقب الأحزاب بعضها بعضاً مستخدمة آليات دستورية والكل يحتكم في آخر المطاف لبرلمان ديموقراطي مُنتخَب.

ماذا نتوقع أن يحدث عندما نُقحم الدين في خضم صراع سياسي يومي كهذا؟ سوف يقع الدين في قلب التوظيف السياسي والاتهام والزعم بالنطق باسمة، ويتعرض لمآزق لا تنتهي من ناحية مفهومية بحتة.

فالدين، أي دين، مناطه القيم المطلقة بينما السياسة قائمة على النسبية والمساومات. كيف سوف يعمل إسلاميو الحكومات على افتعال علاقة لا يمكن أن تقوم بين مبادىء الدين المطلقة وآليات السياسة النسبية؟ ولماذا يجب أن يحدث أصلاً بشكل يدمر الاثنين؟

 

خالد الحروب
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2012

خالد الحروب – كاتب وأكاديمي فلسطيني