فيلم "ميرال"....نظرة جديدة على فلسطين القديمة

ربما كان فيلم "ميرال" أوّل إنتاج سينمائي غربي يَعرض بكل بديهية صورة متمايزة وحديثة للمجتمع الفلسطيني قبل تهجير الشعب الفلسطيني وقبل تدمير بناه الاجتماعية. وبهذا يرسم الفيلم صورة مناقضة للتصور الغربي عن الشعب الفلسطيني. إريت نايدهاردت يعرفنا بهذا الفيلم.

Von إريت نايدهاردت

​​ احتفالٌ في بيت عائلةٍ ثرية، شجرة عيد الميلاد وافرة الزينة، والضيوف الكثيرون يلتقون في أجواءٍ أرستقراطية – مشهدٌ نراه في مدينة القدس أثناء الاحتفال بأعياد الميلاد في العام 1947. هكذا يبدأ العمل البارع للمخرج جوليان شنابل Julian Schnabel عابرًا تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. إلا أنَّ الحياة الكريمة تنتهي بعد بضعة أشهرٍ من ذلك مع قيام دولة إسرائيل ومع تعرُّض قسمٍ كبيرٍ من الشعب الفلسطيني للعديد من المذابح والتشريد الذي عانى منه في تلك المرحلة.

يتناول الفيلم قصة حياة سيدةٍ فلسطينيةٍ تدعى هند حسيني (تؤدي الدور هيام عباس) تنتمي لسُلالة الحسيني المقدسية الشهيرة. تكون هند بين الضيوف في احتفال أعياد الميلاد المذكور، وتلتقي على الطريق أثناء عودتها إلى منزلها بمجموعةٍ من الأطفال اليتامى ممن فقدوا آباءهم وأمهاتهم في مذبحة دير ياسين القريبة من مدينة القدس. هند الحسيني تقرر بحزمٍ وبإحسانٍ يليق بمقامها اصطحاب الأطفال معها إلى دار الأسرة في المدينة، وتؤسس دار الطفل للأيتام التي تتضاعف أعداد الأطفال فيها بسرعة بسبب النكبة التي حلـَّت بالفلسطينيين، وإعلان إسرائيل استقلالها. قررت الحسيني مقاومة هذا العنف من خلال التربية والتعليم الجيدين، فأسست بجوار دار الأيتام مدرسةً للفتيات. الفيلم يُظهِر أهمية هذا العمل وأنـَّه السبيل الصحيح الوحيد، فيما كل الناس الذين لهم علاقة بدار الأيتام لا يتمتعون بالجمال وحسب، بل بقدرٍ لا يُصَدّق من الجمال والحسنى.

صنم الجمال

ويُمكن رواية القصة بشكلٍ سطحيٍ وسريعٍ حتى نهايتها: تُدير هند الحسيني دار الأيتام حتى وفاتها في عام 1994، أي بعد فترةٍ وجيزةٍ على توقيع اتفاقات أوسلو. وتبقى "ماما هند" وفيَّة ً لمبادئها بشكلٍ لا يقبل النقاش رافضة ً العنف رفضًا قاطعًا حتى في ذروة النضال التحرري المسلح. الفيلم الذي يَعرض العنف الشخصي الخاص ولا يَعرض العنف السياسي أبدًا على مدى فترة أحداثه الممتدة على طول خمسين عامًا، يُقَدِّم نساءً من ثلاثة أجيالٍ هنَّ هند حسيني، ونادية (تمثيل ياسمين المصري)، وابنتها ميرال (تمثيل فريدا بينتو نجمة فيلم "متشرد مليونير")، وكلهنَّ من دار الطفل ورائعات الجمال. إلا فاطمة (تمثيل ربى بلال) فهي قبيحة منذ زرعها قنبلة. بيد أنَّ مقطعًا في الفيلم يسترجع ما حدث ليُبيِّن أنـَّها كانت جميلةً أيضًا من قبل. أجزاء كبيرة من الفيلم إلى السيناريو تتميز بطابعٍ مصقولٍ مُلمَّعٍ، ويعود ذلك إلى ما كتبته رولا جبريل الصحفية الفلسطينية التي تعيش في إيطاليا، وتكيّفه مع روايتها التي حملت عنوان "ميرال. بلد واحدة. ثلاث نساء. وحلم مشترك". وهي روايةٌ شبيهةٌ بسيرة الذاتية.

نظرة الاستشراق والماركسية

مشهد من الفيلم، خاص
يروي فيلم "ميرال" قصة حياة السيدة الفلسطينية هند حسيني (تمثيل هيام عباس)، التي تنتمي لسُلالة الحسيني المقدسية الشهيرة، والتي أسست في عام 1948 في القدس دارًا للأيتام.

​​

بيد أنه يُمكن العثور على خدوشٍ في كل مساحةٍ مصقولةٍ وكذلك هو الأمر في فيلم "ميرال". ومن خلالها يمكن الإطلال على مستوى آخر، يجعل الفيلم شيقـًا بشكلٍ أو بآخر. لم يكُن جوليان شنابل يعرف الكثير عن فلسطين قبل قراءته رواية رولا جبريل. إذن كانت نظرته بحسب رأي المؤلفة بريئة وغير مصطنعة. ولذلك، أرجِّح أن يكون جوليان شنابل قد التقط من قبيل الصدفة صورًا كانت فيما يتعلق بفلسطين ولوقتٍ طويلٍ نوعًا من المحرمات. أي إظهار وجود الطبقة المتوسطة والطبقة العليا. مشاهد فلسطين في الأفلام التي يُفسَح لها المجال في الغرب أو التي يتم إنتاجُها هناك تُبرِز في المقام الأول الفقراء والمشردين والبؤس واليأس وتترك الانطباع بأن الفلسطينيين هم أناسٌ من نوعٍ آخر. ويكمن أحد أسباب وجود هذا العرض في تقاليد النظرة الاستشراقية الغربية المديدة على المنطقة، التي تم ترسيخها فيما يتعلق بفلسطين على الأخص من خلال أعمال التصوير الفوتوغرافي المُبكرة.

فقد أراد المصورون الأوربيون الأوائل أن يُثبتوا عن طريق الصور الفوتوغرافية الوثائقية أنَّ الكتاب المقدّس صحيحٌ ومن ثم دحض نظريات داروين الحديثة الانتشار آنذاك. وهكذا توحي صورُهم الفوتوغرافية غير العفوية بأنَّ المكان لم يتغيّر منذ ألفيِّ عام. ومازال تأثير هذه الصور مستمرًا حتى اليوم. أما المصدر الثاني لهذا الانطباع فهو عربي الأصل، حيث بدأت صناعة السينما الفلسطينية كجزءٍ من النضال من أجل التحرر في أواخر ستينيّات القرن الماضي، أي في وقتٍ انتشرت فيه البيانات السينمائية ذات الطابع الماركسي في كافة أنحاء العالم. الشعب كان في بؤرة الاهتمام، والفقراء والمشردين والمُستغـَلين. تـُظهر الأفلام البؤس واليأس وتضع الأمور التي خطط الحكام لنفيها والتغطية عليها في محط الأنظار. المَشاهِد التي أنتجها المخرجون الفلسطينيون كانت تشبه تلك التي أنتجها زميلاتهم وزملاؤهم الأوروبيون إلى حدٍّ مُدهِش. أما الاختلاف فيكمن في أنَّ العرب كانوا يرون بذخ أغنيائهم يوميًا، بينما لم يكن الأوروبيون والأوروبيات يُشاهدوه أو يعرفوا بوجوده.

"مشاهد فلسطين في الأفلام التي يُفسَح لها المجال في الغرب أو التي يتم إنتاجها فيه تُبرِز في المقام الأول الفقراء والمشردين والبؤس واليأس" كما ترى إريت نايدهاردت.

​​

إملاء الجماعة

ينطبق نظير ذلك على تناول هذه الأعمال، فالمخرجون والمؤلفون الفلسطينيون يأتون في المقابل، مثل معظم الفنانين على المستوى العالمي، من هذه الطبقة بالذات. ويُلاحظ ازدياد الأعمال السينمائية للنساء الفلسطينيات في العقد الماضي. بالتزامن مع ذلك ينمو في العالم العربي ميلٌ لسرد حكاياتٍ شخصيةٍ تحاول من خلال أسئلة الـ "أنا" أنْ تعارض إملاءات الـ "نحن". الفلسطينيات يصنعن أفلامًا عن عائلاتهن ويجلبن بذلك شريحة الأغنياء إلى الشاشة. بيد أنَّ ميزانيات الإنتاج عند النساء أقل بكثير منها عند الرجال في كل مكان ودائمًا تقريبًا. لذا نلاحظ أنَّ انتشار أفلامهن أقل بكثيرٍ من انتشار الأفلام الأخرى.

وربما كان فيلم "ميرال" أوّل إنتاجٍ سينمائيٍ غربيٍ عن فلسطين يعرض بكل بديهيةٍ شريحة الأغنياء في المجتمع الفلسطيني في الفترة السابقة على تهجير الشعب الفلسطيني وتدمير بناه الاجتماعية. لقد حرص كل من جوليان شنابل ورولا جبريل بدقة فائقة على تجنـُّب روايات وعرض عنف الدولة لكي يصنعوا فيلمًا سِلميًا ومتفائلاً من وجهة النظر الغربية. وقد فرضا هذا المنطق بجذريةٍ ابتداءً من المشاهد الأولى، فقدما للمشاهد مجتمعًا متمايزًا وحديثـًا، ناقضين بذلك التصوّر الغربي عن فلسطين المتخلفة وكذلك الخـُرافة الصهيونية عن البلد الذي كان فارغًا من السكان. ثمة تصريح لجوليان شنابل في النشرة الصحفية لشركة توزيع الفيلم الألمانية، يُعبِّر فيه عن الإعجاب الذي يكنـّه لهند الحسيني حيث يقول " دفعها عثورها على خمسة وخمسين طفلاً في شوارع القدس في عام 1948 إلى تأسيس دار الطفل". يمكن التعرّف في كلماته هذه على فرحه بهذا الجهد الخيري. لكن المرء لا يعثر في القدس على أطفالٍ مشردين بلا سبب، ناهيك عن ذلك في عام 1948. لم يقصد جوليان شنابل وفريقه كسر هذه الأسطورة، بل كان ذلك بالأحرى محض صدفةٍ طارئة.

إريت نايدهاردت

ترجمة: يوسف حجازي

حقوق النشر: قنطرة 2010