اختبار صعب أمام حلف متداع

تمر العلاقات بين تركيا وإسرائيل التي كانت توصف في السابق بالوثيقة بتحول كبير. ولا ترتبط هذه التحولات بالدرجة الأولى بالعملية العسكرية الإسرائيلية ضد "أسطول الحرية" المتجه إلى قطاع غزة، بل تعود إلى زمن أقدم، كما يرى توماس فوستر في تحليله هذا.

الصورة دويتشه فيله
"بغض النظر عن الخطاب المتشنج المعروف عن أردوغان، هيمن في الماضي غالباً نوع من البراغماتية"

​​ "لن يعود أي شيء إلى ما كان عليه ذات يوم"، عبارات يطلقها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كلما تطرق إلى علاقة بلاده بإسرائيل وذلك في ضوء الهجوم الإسرائيلي على سفن "أسطول الحرية. فهذا الهجوم الذي أدانه أردوغان واعتبره "مذبحة"، بات يُعرض على أنه نقطة تحول في العلاقات بين البلدين. كما أصبح الكلام يدور حول اللصوصية والقرصنة وإرهاب الدولة، وعن ملاحقة المسؤولين عن الهجوم قانونياً وسط تحذيرات أردوغان من اختبار قوة صبر تركيا وعداوتها.

ولم يبق هناك ما يوحي بالعلاقات المتينة التي كانت ذات يوم تربط بين إسرائيل وحليفتها الوحيدة في العالم الإسلامي، والعلاقات الثنائية بينهما باتت اليوم في أدنى مستوياتها. أما اليوم فقد قامت تركيا بسحب سفيرها من إسرائيل، بعد أن كانت تعتبر أول بلد، يشكل المسلمون أغلبية سكانه، اعترف بدول إسرائيل الفتية عام 1949 وأقام علاقات دبلوماسية معها. كما قامت بإلغاء مناورات مشتركة مع إسرائيل، وأمام مجلس الأمن أسقط وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو عن الدولة العبرية كل شرعية لاعتبراها عضواً محترماً في الأسرة الدولية.

والآن، لم تكن علاقة تركيا بإسرائيل علاقة مودة قط. أما التحالف الإستراتيجي بينهما فلم يُنظر إليه في شرائح واسعة من الشعب التركي إلا بمقدار ضئيل من الجدية. إن النخبة الكمالية الضيقة قد بذلت كل ما في وسعها لإقامة أواصر وثيقة بإسرائيل، أي بعبارة أخرى الجيش الذي مارس إقامة العلاقات ضد رغبة الحكومة دائماً.

مصالح أمنية مشتركة

وربما بدا هذا الأمر جلياً عام 1996 في التوقيع على معاهدة التعاون، التي فتحت أمام كلا الدولتين أبواب التعاون في المجال العسكري. وعرف الجنرالات المتشددين لعلمانيتهم أيضاً أن إقامة علاقات متينة مع الدولة العبرية ستكون وسيلة دائمة لمواجهة نمو نفوذ الإسلام السياسي في تركيا.

الصورة أ.ب
ثمة مصالح أمنية مشتركة بين إسرائيل وتركيا قد يصعب التخلي عنها رغم التطورات الأمنية الأخيرة

​​ وكان من شأن المصالح المشتركة أنها عملت حتى الوقت الراهن على أن يتمكن هذا التحالف الصعب من التغلب على الاختلافات الأيدلوجية والرؤى المتناقضة للقضايا المهمة على ساحة السياسة الدولية، كحرب العراق عام 2003 على سبيل المثال. فالمصالح المشتركة تكمن في المقام الأول في جانب السياسة الأمنية: فكلا القوتين العسكريتين تتبادلان المعلومات الاستخبارية، وتنفذان إجراءات تدريبية مشتركة ويسمحان لبعضهما البعض باستخدام الأماكن المهمة من الناحية الجيوستراتيجية. كما أن تركيا تعد في النهاية أحد أهم الدول المستوردة للأسلحة الإسرائيلية. وكل هذا يتم في ظل دعم الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعد حليفاً مشتركاً للبلدين.

ومن غير المرجح أن يتم الآن إنهاء التعاون العسكري بين إسرائيل وتركيا بصورة مفاجئة. وبغض النظر عن الخطاب المتشنج المعروف عن أردوغان، هيمن في الماضي غالباً نوع من البراغماتية. لأن وزارة الدفاع التركية أعلنت من جانبها أيضاً أن الأزمة الحالية لن تؤثر على شراء طائرات إسرائيلية دون طيار، تُستخدم بشكل خاص في مقاتلة حزب العمال الكردستاني المحظور. كما أن تركيا، وهي أحد أعضاء حلف الناتو، ستتمسك بتطوير المعدات العسكرية كالطائرات والدبابات التركية من قبل إسرائيل.

فقدان الأعداء

لكن هذا التحول في العلاقات الثنائية بين تركيا وإسرائيل يبقى جلياً، كما أنه بدأ قبل العمل العسكري الذي قامت به إسرائيل مؤخراً. وأحد أسباب هذا التحول يتلخص في أن التحالف بين إسرائيل وتركيا فقد بصورة واضحة العدو المشترك، وهما سوريا وإيران.

تنتهج تركيا سياسة تقارب إزاء هذين الدولتين منذ سنوات، الأمر الذي يثير حيرة الغرب. إذ تتبع تركيا في ذلك خطة عمل وضعها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو من أجل الحصول على عمق استراتيجي، وتقوم هذه الخطة بمنح الأولوية لإزالة المشاكل مع دول الجوار والتكامل مع هذين الجارين ( من خلال التعاون والتكافل على سبيل المثال).

الصورة د.ب.ا
"أحد أسباب التحول في العلاقات الإسرائيلية التركية هو أن التحالف بين إسرائيل وتركيا فقد بصورة واضحة العدو المشترك، وهما سوريا وإيران"

​​ كان الشعور المشترك بالتهديد، الذي تشكله سوريا، في تسعينات القرن الماضي سببا مركزيا للتعاون الوثيق بشكل خاص آنذاك. وبسبب أن سوريا احتضنت في يوم ما زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المطلوب لتركيا، لاحت في الأفق بوادر حرب محتملة بين تركيا وسوريا. وقامت إسرائيل بدعم ملاحقة تركيا لأعضاء الحزب الكردي المحظور بالسلاح وبالمعلومات الاستخبارية. كما منحت تركيا مجالاً جوياً لإسرائيل، التي تخوض صراعاً مفتوحاً مع سوريا بسبب مرتفعات الجولان. لكن بعد القبض على أوجلان في عام 1999 تحول موقف أنقرة تجاه دمشق وأخذ مساراً تصالحياً، وبذلك فقد مفصل العدو المشترك قوته الرابطة لإسرائيل وتركيا.

حزب العدالة والتنمية على مفترق طرق

بصعود حزب أردوغان الإسلامي المحافظ، حزب العدالة والتنمية، على قمة الحكومة التركية في عام 2002 ازدادت صورة المصالح تعقيداً، وهذا الحزب يتبع إزاء إسرائيل سياسة متناقضة للغاية. فمن جانب لا توجد هناك رغبة وإمكانية لدى تركيا لإخفاء الاستياء من الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع أخوانهم في العقيدة في الأراضي الفلسطينية، كما أن بعض الأعضاء المتطرفين في حزب العدالة والتنمية ليسوا محصنين قط تجاه ردود الأفعال المعادية للسامية.

أنصار حزب لعدالة والتنمية، الصورة د.ب.ا
يتطلع أردوغان إلى أصوات الناخبين من خلال خطاباته النارية ضد إسرائيل

​​

ومن جانب آخر فإن من بديهيات الحكومة التركية الظهور كقوة إقليمية ووسيط مهم في منطقة الشرق الأوسط، وهو دور يتطلب منها البقاء على مسافة واحدة من جميع الأطراف المتعادية. لا تنجح تركيا دائماً في الحفاظ على هذه العلاقة الصعبة، لكن مع ذلك نجحت عام 2008 في دور الوساطة في المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل. وبدت المفاوضات تسير في الاتجاه الصحيح، حتى قضى الهجوم الجوي الإسرائيلي على قطاع غزة على عملية السلام بصورة مفاجئة. حينها شعرت تركيا بالخديعة، حتى إن أردوغان بعد وقت قصير من ذلك خرق كل الحواجز والأعراف الدبلوماسية في منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس، حين وبخ الرئيس الإسرائيلي بيريس توبيخاً قاسياً. ورأت الشعوب العربية، المستاءة من تقاعس حكامها، في أردوغان بطلاً جديداً. وتبعاً لذلك تراكمت المقارعات السياسية والتلميحات اللاذعة في وسائل الإعلام بين تركيا وإسرائيل.

السعي وراء أصوات الناخبين

وفيما يتعلق بالسياسة الداخلية يمكن لأردوغان، الذي يطمح للحصول على ولاية ثالثة في الانتخابات البرلمانية في العام المقبل، أن يحقق الكثير من المكاسب من خلال نهجه المتشدد هذا. وهكذا يتأثر الرأي العام بشكل متزايد بطبقة وسطى أنضولية جديدة، لم تعد راغبة في إنكار هويتها الإسلامية بعد الآن، من دون إعارة أي اهتمام لدستور الدولة العلماني.

إن المواطنين الأتراك، الذين يعدون بحق العمود الفقري لحزب العدالة والتنمية، لم يعودوا يتقبلون الحجة القائلة بضرورة قبول القمع الذي تمارس إسرائيل بحق الفلسطينيين، باسم مراعاة المصالح الأمنية العليا لتركيا. وهذا ليس فقط لأن المؤيدين لإسرائيل في تركيا –المتمثلين في الجيش- فقد الكثير من تأثيره السياسي ومرجعيته الأخلاقية من خلال الكثير من الشنائع المتعلقة بمحاولات الانقلابات العسكرية.

توماس فوستر
ترجمة: عماد مبارك غانم
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: صحيفة نويه توريشه تسايتونغ/ قنطرة 2010

قنطرة

ستون عاما على العلاقات التركية-الإسرائيلية:
لغة المصالح ولعبة التوازنات
كانت تركياً أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل سنة 1949، وبعد ستين عاما على العلاقات التركية الإسرائيلية مازالت رغبة تركيا بلعب دور الوسيط النزيه في الصراع الشرق أوسطي على سلم أولويات سياستها الخارجية. غير أن هذا الدور يخفي وراءه سعي أنقرة الحثيث لإقامة علاقات متينة وشراكات استراتيجية مع العالم الغربي. جان فيلكس انغلهارد يستعرض تاريخ العلاقات الإسرائيلية التركية ودلالاتها.

تعليق حول الهجوم على "أسطول الحرية":
"إسرائيل باتت تسير نحو عزلة خطيرة"
الهجوم الإسرائيلي على "أسطول الحرية" وردود الأفعال الدولية ينذران بأن إسرائيل في طريقها إلى عزلة خطيرة وأن التمسك بلغة القوة لن يسمح للإسرائيليين ببناء مستقبل لبلادهم يقوم على الديمقراطية والانفتاح وفق تعليق الصحفية بيتينا ماركس.

التقارب بين سوريا وتركيا:
نهاية الشراكة التركية الإستراتيجية مع إسرائيل؟
لوحظ في الأسابيع الأخيرة رفض أنقرة التعامل مع صديقتها القديمة إسرائيل وتجاهلها، في حين شهدت العلاقات التركية مع سوريا أجواءً دافئة. عائشة كرابات تلقي الضوء على التغييرات الجذرية المحتملة في سياسة تركيا الخاصة بالشرق الأوسط.