صراع الأشباح ما بين العلمانية والإسلام

يلعب الإسلام وتطبيق التعاليم الدينية في النقاش العمومي في تركيا دورًا مهمًا بصورة متزايدة. هل يساهم حزب العدالة والتنمية في نشر القيم المحافظة والدينية؟ مقال بقلم عمر إرزيرين

أوجدت النخبة المتديّنة المحافظة، على الرغم من أن تركيا دولة علمانية من الناحية الدستورية، أمكنة جديدة خاصة بها: فنادق تراعي فصل الجنسين في المسابح وأحياء يحرم فيها تقديم الكحول مثلما صار الذهاب إلى مدارس تجويد وتحفيظ القرآن واحدًا من التقاليد والأعراف الاجتماعية. تقرير عن التحول الجديد الذي تشهده تركيا الآن.

تحدَّثت الصحف التركية قبل فترة قصيرة عن نزاع دار في حافلة للسفرات البعيدة. حيث طلب بعض المسافرين من سائق الحافلة التوقُّف عند مسجد لكي يقيموا صلاتهم، الأمر الذي عارضه مسافرون آخرون. وفي آخر المطاف أدلى الناطق باسم شركة الحافلات برأيه في هذا الحادث، مشيرًا إلى أنَّ التعليمات لا تنصّ على استراحات الصلاة أثناء السفر لمسافات طويلة.

لماذا انفجر الوزير في وجه الطباخ؟

كذلك شغل حادث آخر الصحافة التركية طيلة أيّام، حين قامت حكومة رجب طيب إردوغان قبيل الانتخابات بتعيين عثمان غونس وزيرًا للداخلية لفترة انتقالية. فقد تناول الطعام في مطعم فاخر في مدينة موغلا التي تقع على بحر إيجة سوية مع محافظ منطقة ريزوتو. ولكن عندما سأل وزير الداخلية الطبَّاخ عن طريقة تحضير الوجبة وعلم أنَّ النبيذ يُستخدم أيضًا في تحضيرها، انفجر الموقف.

إذ أخذ وزير الداخلية المتديِّن يشتم الطبَّاخ، أمَّا المحافظ فقد حمى الطبَّاخ وتمّ استدعاؤه في آخر الأمر. كذلك لا تنتهي التقارير والريبورتاجات في تركيا حول شكل حجاب زوجة الرئيس السيِّدة خير النساء غول. يعتبر السؤال عن مصمِّم الأزياء الذي سيقدِّم لها النصائح بمثابة فرن دائم الاحتراق في وسائل الإعلام.

يلعب الإسلام وتطبيق التعاليم الدينية في النقاش العمومي في تركيا دورًا مهمًا بصورة متزايدة. حدثت في ربيع هذا العام مظاهرات سياسية. خرج مئات الآلاف من الأتراك في المدن الكبرى إلى الشوارع، معلنين أنَّ عملية أسلمة تركيا تتقدَّم إلى الأمام في ظلِّ حكومة حزب العدالة والتنمية وأنَّ العلمانية في خطر.

تحتَّم على القائمين على تلك المظاهرات أن يكابدوا مرارة الهزيمة مع الفوز الساحق الذي حقَّقه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية. شكَّلت العلمانية والأسلمة في الأعوام الماضية من حكم حزب العدالة والتنمية أهمَّ مصطلحين في الجدل السياسي، حتى وإن ظلّ معناهما في حالات كثيرة غير واضح.

تغلغل حزب العدالة داخل المجتمع

يستنتج بدون مبالاة من الناحية النظرية وكذلك من الناحية العملية لحزب العدالة والتنمية أنَّ هذا الحزب ليس بصدد إقامة دولة دينية يحكمها رجال الدين وفرض الشريعة الإسلامية. بيد أنَّ حزب العدالة والتنمية باعتباره حزبًا سياسيًا تغلغل في المجتمع التركي (منذ العام 1994 يمثِّل الحزب رؤساء البلديات في المدن الكبرى، مثل إسطنبول وأنقرة، ومنذ العام 2002 الأكثرية البرلمانية والحكومة والآن أيضًا رئيس الدولة عبد الله غول) وبذلك ساهم مساهمة فعَّالة في نشر القيم المحافظة والدينية.

نشأ زعماء وقادة حزب العدالة والتنمية سياسيًا حتى التسعينيَّات من القرن الماضي في أحزاب إسلاموية. إذ جمعتهم وجهة نظر دينية رجعية قبل بروز حزب العدالة والتنمية باعتباره حزبًا إصلاحيًا. كذلك كان من الملفت للنظر في السنين الماضية من حكومة حزب العدالة والتنمية كثرة عدد الموظَّفين الذين تمّ تعيينهم في مناصب رفيعة المستوى، ممن حصلوا على شهاداتهم العليا من مدارس الخطباء والأئمة.

مليون تلميذ في مدارس حفظ القرآن

لم يعهد أنصار الإسلام السياسي هذا التساهل من قبل قطّ في الدوائر الرسمية. إذ تمّ في ظلِّ حكومة حزب العدالة والتنمية تسهيل القوانين واللوائح الخاصة بتدريس دروس تجويد وتحفيظ القرآن. يبلغ عدد التلاميذ الذين يتابعون حاليًا دروس تجويد وتحفيظ القرآن حوالي مليون تلميذً - غالبًا في عطلة الصيف المدرسية.

يوعد التلاميذ المتفوِّقون بهدايا، مثل المال والدرّاجات الهوائية وأجهزة السي دي. يتمّ تمويل هذه الحملات الدعائية من قبل شركات على صلة وثيقة بحزب العدالة والتنمية. لم يكن من الممكن قبل بضعة أعوام تصوّر أن يتحدَّث نائب محافظ بمناسبة المولد النبوي عن أنَّ "العالم بحاجة إلى زعيم مثل النبي محمد"، أو أن يتمّ في المدارس تداول كتب تنكر وتلعن نظرية النشوء والترقي.

بيد أنَّ حزب العدالة والتنمية ليس السبب في نشر القيم الدينية المحافظة. فقد استخدمت الحكومات المحافظة دائمًا منذ نهاية نظام الحزب الواحد الخاص بالكماليين في العام 1950 الإسلام كوسيلة للتعبئة السياسية. عاد الأذان للصلاة يؤدى باللغة العربية، بعد أن كان يؤدى في السابق باللغة التركية.

كذلك راهنت كلُّ الحكومات اليمينية في الستين عاما الماضية على دعم وتأييد الملل والطوائف الدينية. استخدمت أيضًا قبل نصف قرن مدارس تجويد وتحفيظ القرآن في الدعايات الانتخابية. وحتى العسكريّون اتَّخذوا بعد الانقلاب العسكري في العام 1980 من الإسلام رابطةً عقائديةً ضدّ اليسار والحركات الكردية. وفي ظلِّ الدكتاتورية العسكرية تمَّ إدخال الدين إلى المدارس كمادة إلزامية كما أمر العسكريّون بتوزيع أحاديث نبوية وسور ضدّ خطيئة الانفصالية الكردية.

النخبة المتدينة الجديدة

ومع حزب العدالة والتنمية ظهر شيء جديد: الحياة اليومية والحياة العملية اللتان يحدِّدهما الدين. نشأ شكل للحجاب ضمن سياق الجدل حول الطالبات المحجَّبات اللواتي مُنعن من دخول الجامعات، وصار شكل الحجاب هذا يرمز إلى التبعية السياسية.

أوجدت النخبة المتديّنة المحافظة أمكنة جديدة خاصة بها - فنادق تراعي فصل الجنسين في المسابح وأحياء بكاملها، يعتبر تقديم الكحول فيها أمرًا محرّمًا وحيث أصبح الذهاب إلى مدارس تجويد وتحفيظ القرآن واحدًا من التقاليد والأعراف الاجتماعية.

أضيف إلى ذلك ضمن إطار النظام الاقتصادي الليبرالي الجديد الذي يتبنَّاه حزب العدالة والتنمية شكل مريب جدًا من أشكال السياسة الاجتماعية. إذ كثيرًا ما حدث أثناء منح العطاءات والمناقصات أو رخص البناء أن اشترط حزب العدالة والتنمية التبرُّع بمبالغ ضخمة لجمعيَّات خاصة. صارت تقوم جمعيَّات ومنظَّمات خيرية كبيرة وخاصة ودينية مشكوك في طرق تمويلها، مقام الدولة في رعاية شؤون السياسة الاجتماعية وتقدِّم مع الدعايات الدينية المساعدات إلى الملايين من الفقراء والمحتاجين.

دور النساء في الصراع القادم

بيد أنَّ دور المرأة سوف يكون العامل الذي سيضع حزب العدالة والتنمية أمام مشكلة كبيرة. لقد جنَّد الحزب النساء على نطاق واسع واستخدمهن من أجل نشاط الحزب، في حين يتمّ اتِّخاذ القرارات في قمة الحزب من قبل الرجال.

يؤيِّد حزب العدالة والتنمية ذهاب الفتيات إلى المدرسة وقيادتهن للسيَّارات ودراستهن في الجامعات. بيد أنَّ الدور الذي يُعزى إلى النساء هو من وجهة النظر الدينية الرجعية دور الزوجة الصالحة والأم البارّة.

تزوَّج الرئيس عبد الله غول زوجته وهي ابنة خمسة عشر عامًا. إنَّ هذا الأمر لن يكون ممكنًا طبقًا للقانون المعمول به حاليًا. درست بنات زعماء حزب العدالة والتنمية السياسيين في الجامعات. لكنَّهن تزوّجن في سنّ مبكّرة كما يقمن بأعمال صغيرة. تعتبر نسبه النساء العاملات في تركيا بنسبة 28 بالمائة واحدة من أقلِّ النسب في العالم.

تحتل تركيا في قائمة الفرق العالمي بين الجنسين Global Gender Gap Index الخاصة بالمنتدى الاقتصادي العالمي المرتبة رقم 105 بعد الإمارات العربية المتَّحدة والبحرين والكاميرون وبوركينا فاسو. إذا ما ارتفعت نسبة النساء العاملات مع الازدهار الاقتصادي فمن الممكن تكهّن أنَّ النساء سوف يصبحن عاملاً ماديًا مهمًا في صراع الأشباح ما بين العلمانية والإسلام.

بقلم عمر إرزيرين
ترجمة رائد الباش
حقوق الطبع قنطرة 2007

قنطرة

وصول الإسلامويين إلى وسط المجتمع
يرى المحلل السياسي غونتر زويفرت أن نتائج الانتخابات تدل على تدني تأثير التيارات القومية المتطرفة في الشارع التركي وعلى نجاح الديموقراطية دون قيد أو شرط

تركيا والإتحاد الأوروبي
ملف شامل يناقش العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوربي من جهة والعلاقة بين تركيا والعالم الإسلامي من جهة أخرى