بعيدا عن الفردانية الغربية - أخلاقيات العناية بالآخرين في المجتمع المعاصر

رواية "خيط البندول" للسورية نجاة عبد الصمد Arabic Cover of the novel -The Pendulum Thread- by Syrian Najat Abdel Samad
تكتب أماني الصيفي: أرى أن السرد الروائي -في رواية "خيط البندول" للسورية نجاة عبد الصمد- والذي يجسد مشاعر ومآزق واقعية يبرز ويسلط الضوء على التحديات التي تطرأ عند ممارسة أخلاق العناية بالآخرين في المجتمع الحديث. … ويركز السرد في رواية "خيط البندول" على عمق التجربة والمشاعر الإنسانية في لحظات الولادة والموت وكذلك يتطرق لتجارب التعامل مع أشخاص ظلوا على هامش التنظير الأخلاقي كذوي الإعاقة جسديًا أو عقليًا، مُغطيًا مجالات العلاقات الأسرية ومفاهيم الصداقة والتمريض، وحتى المشاركة الفعّالة في نسيج الحياة المدنية. صورة من: Naufal Books

رواية لكاتبة وطبيبة سورية مقيمة في ألمانيا تمثل لوحة أدبية تعبر ببراعة روائية عن فهم عميق ورصين لجوانب حياة مجتمعية وإنسانية معاصرة: رؤية ترصد بناء علاقات إنسانية مستدامة. أماني الصيفي قرأت الرواية لموقع قنطرة.

Von أماني الصيفي

تقدم هذه المقالة قراءة لرواية "خيط البندول" من خلال منظور مستند إلى نظرية "أخلاقيات العناية". يتجاوز هذا المنظور العلاقات التقليدية للعناية، مثل الرعاية الطبية والعائلية، ليشمل دور الرعاية في المجال العام، حيث تعتبر أساسًا للعلاقات الاجتماعية في مستويات مختلفة. كما تلقي المقالة الضوء على التحديات، التي تواجه الأفراد والجماعات في ممارسة أخلاقيات العناية وتحقيق تأثير إيجابي في محيطهم في ظل هيمنة خطاب قائم على قيم الحداثة الغربية التي ترسخ قيم الفردية والسعي لتحقيق المنفعة الذاتية وملاحقة تحقيق النجاح والربح المادي من جهة وتفشي الفساد والاستبداد في مجتمعات عدة من جهة أخرى.

 صدرت رواية "خيط البندول" للكاتبة والطبيبة السورية نجاة عبد الصمد عام 2023 عن دار نوفل، وتروي أحداثها على مدى 308 صفحة. تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء، حيث يتم توقيت كل جزء بتواريخ معينة (1993 و2007 و2010). هذه التواريخ تُمثل فترات في حيوات شخصيات الرواية وتعكس التغيرات المجتمعية والثقافية في مجتمع معاصر، وذلك في إطار دولة غير معلومة، تمثل تجسيداً لأي مجتمع معاصر يتحول من الثقافة التقليدية الجماعاتية والاعتماد على الزراعة والصناعات الحرفية إلى مجتمع التطور التكنولوجي والعلم والرأسمالية.

 تدور الأحداث بشكل خاص بين مدينة صغيرة تُعرف بزعفران وعاصمة الدولة، حيث يتجسد مصير الحكاية. بالإضافة إلى ذلك، تشمل الرواية عدة عواصم عربية مثل بيروت وعمان، وتتعامل مع دولة خليجية لم يتم الكشف عن اسمها. تقدم رواية "خيط البندول" لوحة معقدة ومتشابكة لحيوات شخصيات واقعية معاصرة من خلال شخصية الطبيب أسامة وزوجته نداء، حيث يندرج السرد في إطار حياتهما الشخصية والمهنية، ومحاولتهما لتحقيق تطلعاتهما في بناء مستقبل يُمثِّلان فيه الجيل الثاني لمسيرة التعليم ومشاركة المرأة وأبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة في الحياة العامة في البلد حيث تدور الأحداث.

رواية "خيط البندول" للسورية نجاة عبد الصمد  Arabic Cover of the novel -The Pendulum Thread- by Syrian Najat Abdel Samad
صدرت رواية "خيط البندول" للكاتبة والطبيبة السورية نجاة عبد الصمد عام 2023 عن دار نوفل، وتروي أحداثها على مدى 308 صفحة. تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء، حيث يتم توقيت كل جزء بتواريخ معينة (1993 و2007 و2010)، هذه التواريخ تُمثل فترات في حيوات شخصيات الرواية وتعكس التغيرات المجتمعية والثقافية في مجتمع معاصر، وذلك في إطار دولة غير معلومة، تمثل تجسيداً لأي مجتمع معاصر يتحول من الثقافة التقليدية الجماعاتية والاعتماد على الزراعة والصناعات الحرفية إلى مجتمع التطور التكنولوجي والعلم والرأسمالية. صورة من: Naufal Books

ويركز السرد في رواية "خيط البندول" على عمق التجربة والمشاعر الإنسانية في لحظات الولادة والموت وكذلك يتطرق لتجارب التعامل مع أشخاص ظلوا على هامش التنظير الأخلاقي كذوي الإعاقة جسديًا أو عقليًا، مُغطيًا مجالات العلاقات الأسرية ومفاهيم الصداقة والتمريض، وحتى المشاركة الفعَّالة في نسيج الحياة المدنية. أرى أن السرد الروائي والذي يجسد هذه المشاعر والمآزق الواقعية يبرز ويسلط الضوء على التحديات التي تطرأ عند ممارسة أخلاق العناية بالآخرين في المجتمع الحديث. 

أخلاقيات العناية تبرز ممارسة السلوك الأخلاق بمنظور مختلف عن نظريات الأخلاق السائدة، مثل الكانطية والنفعية، التي تدعم الرؤية الليبرالية والحقوق الفردية، مع التركيز على الاستقلالية وملاحقة المصلحة والأهداف الشخصية في الخطابات السائدة في المجتمع الحديث.

تُعرَف هذه النظرية المعيارية بـ "أخلاق العناية"، وهو المصطلح الذي تناولته الأستاذة في الفلسفة فيرجينيا هيرلد في كتابها "أخلاقيات العناية" الصادر عن جامعة أكسفورد في عام 2006. وفقًا لهيرلد على الرغم من عدم وجود تعريف موحد لـ "أخلاقيات العناية" -إذ يعتبرها الكثيرون" فضيلة"- فإن هيرلد ترى أن "أخلاقيات العناية" تفوق مفهوم الفضيلة كسمة للأشخاص، إذ ترتبط العناية ارتباطًا وثيقًا بالممارسة والعمل، أي أن القائم بالعناية يقدم عملًا للمتلقي لتمثل "العناية" بذلك العلاقات بين ميول الأفراد الذين يتسمون بهذه الفضيلة.

تقول هيرلد: "نحن نقدر الأشخاص الاعتنائيين في علاقاتهم الاعتنائية" (ص.٥٧). وتشير إلى أن أخلاقيات العناية لا تستبدل بالعدالة، بل تكملها، إذ تعتقد أن تربية حس أخلاقيات العناية في المجتمع يمكن أن يساعد الأفراد والجماعات على تلبية احتياجات وحقوق الآخرين وبناء مجتمعات أكثر عدالة وترابطًا دون إجبار. وتشدد على أن أخلاقيات العناية لا تصف ممارسات العناية كما تطورت تحت ظروف السيطرة الأبوية، بل تنشأ عن رغبة وحب والتزام بالاعتناء بالآخر في علاقة تعاضد وانتماء وثقة بين الأفراد والجماعات.

يتميز هذا التفكير الأخلاقي، وفقا لهيرلد، بإبراز خمس خصائص أساسية. 

أولاً، يسلط الضوء على أهمية الاهتمام العميق بتلبية احتياجات الآخرين.

وثانيًا، يعتبر تقدير العواطف والقدرات العلاقية محوريًا في التعامل مع قضايا الأخلاق.

وثالثًا، يُظهر رفضًا للرؤية التقليدية للنظريات الأخلاقية، التي تعتمد على التجريد المفرط والكونية، مع الانتقال نحو احترام مطالب وتجارب الأفراد في سياق العلاقات الحقيقة. وفضلا عن ذلك يُشير هذا التفكير إلى الرؤية المتفردة للعلاقات الفردية، ويسعى لبناء نهج جديد لفهم الفاصل بين المجال الشخصي والعام.

أخلاقيات العناية بالآخرين في رواية "خيط البندول"

"ليس هناك مجتمع بلا عناية بالآخرين وليس هناك أناس بلا عناية بالآخرين" (هيرلد ١٢٤) 

تستهل أولى صفحات "خيط البندول" بمقدمة ترسم لنا مشهد مغاير للصورة السائدة حول الرجل الحديث المتعلم والقادر على تدبير حياته بشكل مستقل. يتجلى الطبيب أسامة في حوار مع زميله وأستاذه السابق، دكتور مختار، في لحظة إنسانية تظهر العلاقة بينهما كعلاقة تآزر بين فردين بالغين، حيث ينبثق التفاهم والثقة والألفة بين طبيبين يبوحان بحاجتهم المشتركة إلى الدعم والتفهم والتعاطف.

يُقدم أسامة نفسه على أرضية الاعتماد على دكتور مختار، بحثًا عن الدعم والإرشاد حول تحمل مسؤولية تبني طفل، بينما يبوح الدكتور مختار بمعاناته النفسية، كطبيب يحمل عبئا ثقيلاً من المسؤوليات. يحمل الأسرار الطبية التي قد تكون في كشفها نهاية حياته في أي لحظة، مما يبرز العبء النفسي الذي يحمله والذي يُظهر الجانب الإنساني والضعيف لكل منا، حتى وإن كانت الوجوه تخفي وراءها العلوم المهنية والاستقلالية. فنقرأ على لسان الدكتور أسامة ورد زميله مايلي : "في لقاءاتنا الممتدة منذ سنين، كنا نجلس متقابلين فيخبرني عن جديد الطب، ونحكي عن حياتنا وعيادتنا .كم طلبت نصيحته ولم يخذلني. لم تكن الزمالة المهنة وحدها ما يجمعنا، بل سبقتها القدوة منه، والعرفان منى، والمحبة من كلينا".

ويرد الدكتور مختار على طلب أسامة النصيحة والعون قائلا: "نعم يا أسامة أفهم ما أنت فيه ..سأعترف لك بسر: أنا عن نفسي أخاف المشي في الليل أو في أماكن لا زحمة فيها، أشي من رصاصة تأتيني من الخلف في رأسي أو ظهري .. وأتفهم دوافع من يحاول قتلي وأنا لم أكن يوما عدوا له، بل طبيبه الذي حمل عنه سرا لن يرتاح بثقله إلا بموتي…يا بني أذهب وأجلس أنت وزوجتك، فكرا كثيرا ، ثم اتبعا قلبيكما، وقررا . ( ص.٧-٨).

وفي صورة مناقضة للصورة السابقة تبدأ أولى فصول الرواية بتقديم شخصية زوجة أسامة المهندسة نداء، و التي تُعتبر نموذجا للمرأة الحديثة البرغماتية كالتي تعتمد على ذاتها في تخطيط حياتها اليومية والمستقبل، وترفض كل أشكال المساعدة من أي شخص حولها حتى عائلتها، بل وتعتبر المساعدة وصمة عار قد تطال أبنائها في المستقبل .

نشأت نداء على مبدأ علمها إياه والدها يقول: "ما نريده بشدة نصنعه نحن"، وهو ما حرصت نداء على اتباعه منذ طفولتها حتى بعد زواجها. تحث نداء زوجها الطبيب أن يعاهدها على حفظ خصوصتهما واستقلاليتهما فتقول: "كلانا بئر عميق لأسرار الآخر، لا نشاركها مع أحد، لا أهل ولا أصدقاء... نقوم ببناء حياتنا بأيدينا، لا نتكأ على أحد". (ص. ٢٤). تؤمن نداء إيمانًا مطلقًا في قوة العلم والإرادة والتخطيط لتحقيق الأهداف. يصف زوجها أسلوبها قائلا " لم تكن تتسلى …إنها تهندس خطواتننا مثلما تنشئ معمار مبانيها. تحيل الأماني من هلام إلى هيكل هندسي بزوايا، اطلاع ومسارب (٢٤- ٢٨). يقول أسامة "من قبل زواجنا وثقت نداء عهودا الكثيرة، أحدها أننا سننجب ثلاثة أطفال نقشت أسماؤهم على المقاعد أينما جلسنا"( ص١٧) حتى أنها تتصور ملامحهم بناء على المعطيات.

An dieser Stelle finden Sie einen externen Inhalt. Sie können ihn sich mit einem Klick anzeigen lassen.

تجسد شخصية نداء نموذج المرأة/الشخص الحديث الذي يعتمد على العقل الحسابي ويرفض الاعتراف بالصدفة والعفوية. ولكنها تتعرض لصدمة حين تفقد إحدى أنابيبها الرحمية يليها محاولات زرع جنين فاشلة. ولكن نداء تصر على النجاح مهما كلفها من ثمن نفسي ومادي وجسدي حتى أنها تنتقل من اليقين في قوة العلم والإرادة البشرية إلى التضرع إلى الأشجار والمواظبة على قراءة القرآن وارتداء الحجاب ولكن دون جدوى. طوال هذه السنوات تحاول نداء إظهار الكمال وصورة العائلة الناجحة المتمثلة بالنسبة لها في عائلة سعيدة وأطفال أصحاء مع إصرارها إخفاء معاناتها عن الأهل والأصدقاء، متجاهلة مخاوف ومشاعر أهلها ومعارفها الذين يهتمون لأمرها ولا يفهمون تصرفاتها و غيابها المتكرر عنهم، حتى يذكرها زوجها بأهمية مشاركة من يحبونها في تحمل العبء قائلا: "نحن لسنا آلهة أو جبابرة. كلنا ضعفاء في مكان ما وإن كنا نخفي ضعفنا..هل تحتاجين أن أذكرك كم إن إسراء طيبة وكم تحبك؟ وأنت تسيئين إلى أختك حين تظهرين عكس ما تفكرين بها تجاهها، تتجاهلين مخاوفها عليك، وهي بالمناسبة محقة. تتظاهرين بأنك سعيدة فيما أنت لست كذلك. نداء من حق من يحبوننا حقًا ويحملون همنا أن نعطيهم فرصة أن يساعدونا. تذكري المثل: الأقارب والدواء يحتاجها المرء في الأوقات الصعبة" (١١٨-١١٩).

رحلة النداء الشاقة و"الفاشلة" نحو تحقيق الكمال وتصدير شخصية المرأة القوية الناجحة تجسد رحلة البطلة لاكتساب هوية جديدة متحررة من الصورة التقليدية المتعارف عليها للنموذج المتخيل للأسرة المثالية والشخصية الناجحة. إنها رحلة تدعو القارئ للتفكير النقدي من أجل تجاوز القيود المفروضة على الفرد من قبل مفاهيم المجتمع وتحديداً النماذج التقليدية للأسرة وقبول الاختلاف من جهة والاعتراف بمحدودية البشر حيث القبول للنقص والخطأ كجزء لا يتجزأ من تجربة الإنسان.

الجسد الحديث والعناية بالآخرين في المجتمع الرأسمالي

من جهة أخرى تناقش الرواية جوانب من المجتمعات الرأسمالية، حيث أصبح كل شيء قابلًا للشراء، بل وصل الأمر إلى بيع الأعضاء وتأجير الأرحام، وتتجسد هذه الواقعية من خلال شخصية شيرين، شقيقة أسامة الصغيرة. تظهر شيرين كفتاة أنانية متسلطة، تسعى للتمرد على السلطة الاجتماعية وصورة المرأة الضعيفة الخاضعة فتسعى لفرض سلطتها والحصول على ما تريد دون الاهتمام بمشاعر الآخرين. تلعب شيرين بمشاعر الشباب وتحصل على هدايا عينية منهم باستغلال جمالها الذي تعتبره نعمة من الله، لكنها تواجه الواقع بعد زواجها الذي فرضته على عائلتها بسبب "عيب خلقي" في رحمها يجعلها غير قادرة على الحمل. 

تعاني شيرين بصمت وتخفي معاناتها عن عائلتها، رافضة أن يتدخل أخوها الطبيب في حياتها. تقرر شيرين تعويض ما ينقصها بالمال، حيث تستغل اللغة المالية وثقافة السوق في شراء وبيع كل شيء، بما في ذلك استئجار رحمها. تُخفي شيرين مفاصل الأمر عن الجميع، وتستغل تواطؤ أحد الأطباء الفاسدين لتغطية فعلتها..فشيرين "سوف تشتري. تنتقي شيرين الرحم الحاضنة بأعلى سعر، ١٣٠٠٠ دولار، لتضمن لابنها بنية قوية، ولا يخزها ضميرها لأن لم تسمح للحاضنة إلقاء نظرة على شيرين، فقد نالت على خدمتها أجرا يضمن العواطف المبتذلة"( ٢٨٠). 

وهنا تلقي الرواية على هذه أخلاقية انتشار ظاهرة الحمل التعاقدي في العالم والذي ترفضه هيرلد من وجهة نظر أخلاق العناية مؤكدة مع إليزابيث أندرسون في كتابها "القيمة في الأخلاقيات والاقتصاد "و كذلك ماري ليندن شانلي في كتابها "الأمومة البديلة وحرية المرأة" على أهمية احترام الأطفال كأفراد يستحقون الاحترام، وعلى ضرورة تجنب استخدامهم أو التلاعب بهم لصالح مصالح الوالدين. فالمحبة الوالديه تتضمن التعهد الكامل بتطوير الطفل من خلال توفير الرعاية والإرشاد الضروريين لتنمية قدراته نحو النضج. أما "الحمل التعاقدي" فيتناقض مع القيم الأخلاقية المتعلقة بالعناية، حيث يتطلب تغيير تصوُّرنا لحقوق الوالدين من مفهوم الأمانة إلى مفهوم يشبه حقوق الملكية للأطفال. 

ومن ناحية أخرى فهذا الحمل التعاقدي يتجاهل مشاعر الأم من خلال اندماج جسدها مع الطفل الذي يظل طفلها حتى ولو قامت بتربيته غيرها. هذا التعاقد تراه هيرلد وغيرها من الفلاسفة كشكل من أشكال "عقود الرق التوافقي". ومع ذلك لا ترفض أخلاق العناية مثل هذه التصرفات التبرع بالأعضاء إلا إذا كان في حالة الإيثار كمساعدة الأخت لأختها أو الصديقة لصديقتها الراغبة في الإنجاب دون مقابل مادي يسلع جسد الإنسان وهي الصورة التي جسدتها شخصية وردة في الرواية حين عرضت على الطبيب أسامه بسذاجة ومحبة وامتنان لمساعدته لها أن تتبرع برحمها لزوجته نداء لتنجب له طفلا.

من الجدير بالذكر أن "الحمل التعاقدي" أصبح معترفًا به قانونيًا في معظم دول الغرب منذ نهاية التسعينيات في القرن العشرين، بينما يظل غير قانوني في جميع الدول الإسلامية، باستثناء إيران.

تحديات إقامة علاقات اعتمادية تبادلية في المجتمع المعاصر

 تستعرض الرواية نماذج اعتنائية تؤكد على أهمية التعاون والثقة بين الأفراد بدلاً من التكامل الذاتي البعيد عن تدخل الآخرين. تبرز شخصية الخالة جدعة كمثال على هذه العناية، حيث يصف الكتاب إيجابياتها وحبها للناس دون تمييز لطبقتهم الاجتماعية أو ما تستفيده منهم. تتجلى شخصية "جدعة " في منزلها الذي يشكل "خليط دنيا من الحب والشغل والتعليم والتطبيب والبحوث والمآسي وفنون اختراع الفرح .(ص. ٢٢٢). في هذا البيت تعتني "جدعة" بأبناء أختها العشرة وترفض إيداعهم في "دار اليتيم" مؤكدة قدرتها على رعايتهم بشكل أفضل رغم ضيق الحال. كل ما تسعى له جدعة تسعى هو مساعدة ورعاية الدولة لها وأسرتها . فمن بين هؤلاء الأبناء الذين ترعاهم تتجسد شخصية "زاهي" الذي يعاني من من نوبات فصام بسبب كهرباء مختلة في عقله. استغرقت الخالة جدعة سنوات للحصول لزاهي على وظيفة تعينه على الحياة فكانت وظيفة كناس. 

لزاهي قدرات علمية بارعة في مجال البحث الأدبي ولكن يستغلها أستاذ فاسد لمصلحته الشخصية مقابل بعض علب التدخين بدًلا من الاعتناء به ومساعدته. يضطر زاهي إلى الاستدانة باستمرار من الطبيب وابن جارتهم أسامة الذي توصيه عليه الخاله جدعة بحكم الجيرة والعشرة بينهم. شخصية زاهي لا تبرز فقط تفشي الغش و الفساد والأنانية في المجتمع، بل كذلك فشل الدولة في تلبية متطلبات هؤلاء الذين يصعب تنظير حالاتهم فهم يقعون على الحدود بين الأصحاء "القادرين على رعاية أنفسهم" والعاجزين . 

وفيما يتعلق بالدولة، تثير الرواية تساؤلات حول دورها في الرعاية والاهتمام وتقدير المواطنين وترسيخ الإنسانية والانتماء فيهم من خلال خدمة أسامة في الجيش. تظهر تجربة أسامة في الجندية التفاعل بين الضباط والمجندين، وتسلط الضوء على صورة قاسية إساءة استخدام السلطة في إذلال المواطنين وتأثيرها السلبي على العلاقة بين المواطن والانتماء للوطن. يقول أسامة "قيادنا مربوطة على حفنة من الضباط خاويين أفظاظ، يتسابقون إلى إعدام الإنسان فينا…لم نكن رجالًا حين خرسنا وهم يشحطون مصعب من بيننا نحو غرفة التعذيب"(ص.١٣).

ومن قسم البوليس يعود نمر لزوجته ميتاً، حيث يُزعم أنه انتحر، وذلك على الرغم من شكوك الزوجة وردة في رواية البوليس ولكنها فتاة فقيرة تعيش على هامش المجتمع لا عائلة لها ولا سند ولا جلد للبحث عن الحقيقة. الفتاة الطيبة الوحيدة والتي حرمت من الحنان والرعاية بعد انفصال والديها وزواجهما، حيث لم تجد سوى جدها كمصدر للرعاية والحنان، الشخص الوحيد الذي "علمها الحنان" وكان يحبها بشكل كبير. تضطر الطفلة وردة أن تعتني بجدها الذي أصيب بالعمى بعد رفض زوجته وتقاعس أبنائه عن الاعتناء به بحجة انشغالهم بحياتهم الخاصة مستغلين طيبة الطفلة وردة وقلة حيلتها.

استعرضنا في هذا المقال بعض التمثلات في رواية " خيط البندول"، والتي تبرز إبداع الروائية نجاة عبدالصمد في بناء عالم سردي يجسد شخصيات واقعية واستخدام لغة تتناغم بشكل متميز مع الثيمات والمواقف الإنسانية المتنوعة. 

"خيط البندول" تعكس براعة الروائية في تقديم رؤية تؤكد على بناء علاقات إنسانية مستدامة، حيث تعتمد على علاقات التعاطف والتآزر والتدخل الإيجابي في حياة الأفراد دون إجبار أو اتكالية على الآخرين واستغلالهم في مواجهة النزعات العدوانية والأنانية والجشع. تتألق الرواية بذلك كلوحة أدبية تعبر عن فهم عميق ورصين لجوانب الحياة الاجتماعية والإنسانية في المجتمع المعاصر.

 

 

أماني الصيفي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2024

Qantara.de/ar