الخوف من الآخر مرض الساعة

خطابات التفوق الثقافي تعبير عن هوس مبني على الشعور بالضعف والتهديد. هذا الخوف قائم لدى العالمين الغربي والإسلامي، وحالة الخوف الهستيري هذه مرحلة تسبق اللجوء إلى العنف الحقيقي، حسب رأي روبرت ميسيك

حملة تفتيش ضد مشتبهين بالاشتراك بعمليات إرهابية في بريطانيا، الصورة: أ ب
الخوف من عمليات إرهابية في المجتمعات الغربية أدت إلى الحد من بعض الحريات في السنوات الماضية.

​​خطابات التفوق الثقافي تعبير عن هوس مبني على الشعور بالضعفو التهديد. هذا الخوف قائم لدى العالمين الغربي والإسلامي، وحالة الخوف الهستيري هذه مرحلة تسبق اللجوء إلى العنف الحقيقي، حسب روبرت ميسيك

كلما أثيرت المشاعر طويلا بشأن النزاعات المتعلقة بالهوية كلما أدى ذلك إلى جعل تلك النزاعات حقيقة واقعة. المقال التالي الذي كتبه روبيرت ميسيك يعمد إلى تشريح هوس الحرب السيكولوجي.

بدأت طلائع الحرب تظهر على السطح. أو في أقل تقدير بدأ المرء يتحسس تدريجيا ملامح توتر كانت قد سادت العهود المنصرمة. المقصود اندلاع مواجهة على نحو مفاجئ، من طرف تجاه أطراف أخرى.

وبلغت شعوب بكاملها نقطة جعلتها تعتبر "وجودها" بكامله قد أصبح عرضة للتهديد من قبل جهات أخرى تتسم هوية وجودها بطابع مختلف مغاير لها. في مرحلة لاحقة يجري وصف مثل هذه الحالة السائدة على أنها نمط من "هوس الحرب السيكولوجي". كذلك يحلو للبعض استخدام عبارة "طبيعة باثولوجية (مرضية) جماعية" في مثل هذه الحالات.

هذه الرؤى عادت تظهر إلى حيز الوجود، حيث يكثر الحديث عن "جانبنا" و"جانبهم"، عنا "نحن" هنا وعنهم هم أي عن المسلمين في الجانب الآخر، أو "نحن" والغرب و"نحن" في مواجهة هذه المجموعة أو تلك.

لا شك أن الأمور كلها باتت اليوم أكثر تعقيدا من الماضي. فرسوم كاريكاتور منشورة في جريدة دانمركية مغمورة أدت إلى وقوع مظاهرات عارمة في غزة ولاهور. كما أن الظهور الاستفزازي على شاشة التلفزيون في روما لوزير إيطالي ينتمي إلى تجمع "اتحاد الشمال" أدى إلى مصرع أشخاص في طرابلس الغرب.

ونتيجة لفوز حركة حماس في فلسطين أخذت نظرات المترددين على سوق من أسواق بيع معدات البناء في أحد أحياء مدينة فيينا إلى الملتحين المرتديين الجلابية تتسم بالريبة والشك. من ناحية أخرى فقد أصبحت أفلام منتجة في تركيا مناوئة للغرب تلقى صدى إيجابيا فائقا في حي نويكولن الكائن في برلين.

الدفاع عن القيم

الرؤى المبنية على المواجهة لها وقع مغناطيسي ينعكس حتى على الأشخاص "الاعتياديين" المعتدلين في كلا الطرفين. فقد انغمر إزاء إشكالية رسوم الكاريكاتور العديدون من المتدينين المسلمين في المعترك الذي أوجده المتطرفون في صفوفهم، والحال شبيه في الغرب، إذ بات أمر طبيعي جدا في أن يعمد الكثيرون في صفوف الغرب اليسارية الليبرالية إلى التأكيد على ضرورة دفاعهم كغربيين عن قيمهم ومنجزاتهم المدنية في مواجهة "الطرف الآخر".

في هذا السياق يجرى استخدام حجج تتألف من خليط عجيب من الأمور. ففي الجانب المسلم تختلط أحاسيس تعرض العالم الإسلامي على وجه عام للقذف والإهانة ومشاعر جاليات المغتربين على نحو خاص بكونها تعامل في الغرب كمواطنين من الدرجة الثانية بتوجهات معاداة الغرب إلى درجة الإفراط لدى الإسلاميين المتطرفين.

أما في الطرف الآخر فيختلط الخطاب النابع من روح الليبرالية والديموقراطية والذي يتبنى مطلبي حماية حقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي مع غطرسة الشعور بعظمة الغرب وتفوقه على الآخرين.

وبات الشعار المرفوع اليوم هو أن هناك حدودا ينبغي مراعاتها للأفكار الغربية المتعلقة بالتنوير والتسامح وروح التحرر طالما وقعت تلك الأفكار نفسها قيد التهديد.

ليس لهذا الشعار المطروح وقع سيئ في حد ذاته، لكن الإشكالية تكمن في كون النغمة التي يتم عبرها ترديد فكرة التحرر ومن ثم إلغاؤها يتشابه على نحو ملفت للنظر مع النغمة الحادة التي يجري خلالها طرح الشعار المذكور. ربما كان ذلك الخاصية التي تتميز بها الظواهر الباثولوجية الجماعية حيث تختلط أنقى البواعث بأكثر أنماط الفكر تدنيا.

حرب نفسية على صفحات الجرائد

كل جانب ينطلق من معايير حقيقته الذاتية، والمقلق في هذا الصدد أن تلك الرؤية لا تكون في أغلب الحالات خاطئة. من أمثلة ذلك مقال كتبه الكاتب أيمن الأمير في مجلة أهرام ويكلي المصرية وأعلن فيه بأن "الأحكام الغربية المسبقة الموجهة ضد العرب والعالم الإسلامي قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من الثقافة الغربية".

على نحو يتشابه ولو عكسيا مع هذه المقولة كتب الباحث في شؤون العنف، فولفغانغ سوفسكي، في جريدة "دي فيلت" يقول: "جماهير المتدينين تريد أن تمسك بقبضة أعدائها الكفرة لتعمد إلى ذبحهم وحرقهم".

في غضون ذلك بدأت الأوساط الأمريكية المعنية بإعداد التخطيط الاستراتيجي تستخدم مصطلح "الحرب العالمية الرابعة"، علما بأن عبارة "الحرب العالمية الثالثة" هي كناية بالحرب الباردة. وفي جريدة "دي تسايت" يحذر ينز يسين الغرب من خطر "انتقال حمى الهستيرية إليه من خصمه"، كما أنه ينصح مجازا بالفرار من معركة "صراع الثقافات" ليلاحظ بعد ذلك بجمل قليلة بأن الغرب يملك "على نحو فائق النظام الاجتماعي والسياسي الأفضل".

والسؤال يطرح نفسه هنا عما إذا كان بالإمكان استخدام مثل هذه الصيغة دون أن يكون المرء نفسه متورطا بصراع الثقافات هذا. كيف كان علينا أن نفسر هذه الأمور؟ بلبلة في الفكر؟ عاصفة تشحن مشاعر كل منا؟

كذلك كان التهرب من اتخاذ موقف ثابت أمرا سيئا. هذا يسري على تزامن تبني أفكار الحرية الليبرالية مع الإفراط في تبني نزعات مناوئة للإسلام. هذا يسري أيضا على استخدام بلاغة مناوئة لكلا العنصرية والإمبريالية إلى درجة التقليل من خطر مظاهر الهوس الديني والاستبدادي.

رسخت في عقول المسلمين مشاعر الأحكام المسبقة حيال الغرب، وبالمثل سادت لدى الغربيين القناعة بكون المسلمين موضعا للشك والريبة على وجه عام. وفجأة أصبح المرء ينظر بمعايير جديدة إلى الفتيان الأتراك الجالسين بين المتفرجين في ملاعب كرة القدم.

بات العالم اليوم إذن موضع تقسيم وتفريق. أما بلاغة الإحساس بالتفوق الثقافي فهي كما كان الحال عليه على مر الأزمنة تعبير عن هوس مبني على الشعور بالضعف الذاتي والإحساس بالتعرض للتهديد. هذا الميل إلى الخوف قائم لدى الطرفين، بالإضافة إلى ذلك فإن حالة الخوف الهستيري مرحلة تسبق اللجوء إلى العنف الحقيقي نفسه.

هل كان هنتينغتون على حق؟

عندما يهيمن الإحساس بكون الهوية موضع استهداف كان ذلك نذير بظهور أقبح مظاهر الهوس والهستيرية. هل بتنا إذن نشهد صراع الثقافات الذي تنبأ بوقوعه قبل 13 عاما عالم السياسة الأمريكي صامويل هنتنغتون؟

كتب هانتنغتون يومها بأن الثقافات العالمية الكبرى هي بمثابة العناصر القوية الصلدة للنظام العالمي ليضيف بأن هناك اصطداما قائما بينها "نظرا لأن العالم بات أكثر ضيقا واقترابا". ونتيجة لهيمنة الثقافة الغربية على العالم هناك تزايد في حدة العداء المنصب على تلك الثقافة من قبل التابعين لحضارات أخرى غير غربية.

في مثل هذه المعطيات التي يتم خلالها شحذ الهويات يزداد احتمال جعل الناس "يفسرون الظروف القائمة وفقا لمعايير فحواها نحن من جانبنا نمر بمواجهة من قبل الآخرين ".

أدى على نحو خاص التحول الذي طرأ على فهم الإسلام بواقعه الراهن انطلاقا من مصادر عديدة مؤلفة من التراث القرآني وطرق الحياة المحلية المتميزة إلى إسلام الاحتجاج الموحد السلفي العالمي إلى زيادة الحاجة إلى استيعاب تأثير الثقافة الغربية على العالم الإسلامي وضاعف حتى ولو في سياق معين من مقدار تيارات الهيمنة التي تتسم بها الثقافة الغربية.

من هذا المنظور يتضح بأن كلا الظاهرتين أي الزخم الإسلامي والإفراط الاستهلاكي لدى الغرب تتسمان بطابع "مصطنع غير طبيعي". لكن هذا الاستنتاج لا يلغي بحد ذاته مفعول التشخيص الذي طرحه هنتنغتون. فعندما يظن البعض لمدة طويلة بأن ثمة هوية تهيمن على مشاعرهم يتحول هذا الظن إلى واقع حي.

التعامل مع الآخر

من الصفات التي يتسم بها الجدل الدائر حول الهوية أنه يدفع الناس إلى صرف نظرهم عن خاصيتهم الفردية المحددة والانخراط في جبهة تقف في مواجهة جبهات أخرى أو في أحسن الظروف بجانبها. هذا الجدل يعكر بالتالي صفو الرؤية.

الغرب ينكر كونه يمثل حضارة ما بل يزعم بأنه المقياس الأساسي في حد ذاته، أما الآخرون فهو يعتبرهم من أصحاب حضارات تحيز عن ذلك المقياس. وعندما يتحدث الغرب عن "حضارة" الطرف الآخر فإنه ينعتها ولو بصورة ضمنية تلقائية ب "التخلف".

فالغرب يتعاطى مع تلك الحضارات بذلك النمط من الاحترام الذي يصعب في بعض الأحيان التفريق بينه وبين أحاسيس الامتهان نفسها. دعاة التعددية الثقافية يتبنون بكل قوة حقوق جاليات المغتربين بالعيش وفقا لتقاليدها وعاداتها (هكذا سيكون موقفهم أيضا حيال السكان الأصليين لجزر البحار الجنوبية النائية الذين يعمدون إلى تزيين أنفسهم بالألوان المبرقشة)، أما غلاة التيار الليبرالي فيطالبون بجعل "الآخرين" يصبحون مثلنا "نحن" تماما.

أنماط الجدل حول الهوية تكون معبأة على الدوام بطاقات عدوانية. "الهوية تؤدي إلى الحرب"- كان ذلك عنوان العدد الأخير الصادر عن المجلة الأمريكية The New Republic والذي طالب فيه الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، أمارتيا سين، بتوجيه الاهتمام أخيرا إلى وجود طابع تعددي للهوية الواحدة نفسها.

مطلبه هذا يتضمن أيضا التأكد عما إذا كان طرحنا لهذه المسألة يساهم في تخفيف حدة التصارع بين الثقافات أو على العكس في تصعيدها. صلب الرسالة بالتالي ضرورة رؤية الأمور والمعطيات بمنظار الآخرين أيضا. هل يتضمن ذلك الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي والحقوق المرتبطة بالحرية؟ نعم، بطبيعة الحال! لكن الأمر يحتم علينا أن نراعي في نفس الوقت ضرورة تجنب إفراز أفعالنا لوضع يتنافى مع الأهداف التي ننشدها من خلال تلك الأفعال.

روبرت ميسيك
ترجمة عارف حجاج
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2006

روبرت ميسيك كاتب وصحفي نمساوي.

قنطرة

الخلط ما بين السلطة والعقلانية
وزير المالية اللبناني السابق جورج قرم يطرح اسئلة استفزازية ملحة ويطالب بالتحديث الجذري للبنى الفكرية البالية. ويركز الكاتب في كتابه الأخير على عدم التكافؤ بين العالم الغربي والاسلامي.

"يجب أن نكون قادرين على الحوار"
ما هو الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في العلاقات الأوروبية – الشرق أوسطية؟ وإلى أي مدى يؤثر الحوار الافتراضي على هذه العلاقة؟ حوار مع لورنس بينتاك

الحضارات ليست كائنات سياسية
التقت شبكة قنطرة بالدكتور رضوان السيد وتمحور لقاؤنا حول مبادرات الحوار الجارية بين العالم الإسلامي والعالم الغربي وردود فعل المثقفين على الاحتلال الأمريكى للعراق و حالة الإفلاس التي يعيشها المثقف العربي حاليا وعن ما إذا كان هناك أمل في تغيير الأوضاع الحالية في العالم العربي