مبادرة دؤوبة

لن يكون هناك سلام عالمي بدون سلام بين الديانات، هذا هو شعار البرفسور هانز كونغ الذي يسعى إلى تطبيقه عبر مؤسسة "الخلق العالمي" التي استضافت أخيرا كوفي عنان

منذ تأسيس الأمم المتحدة في عام 1945 على الأقل وإعلان ميثاق حقوق الإنسان في عام 1948 والنقاش مازال يدور في كافة أنحاء المعمورة حول القيم العامة العالمية القائمة والملزمة التي تؤدي إلى تعميم السلام بين الشعوب. وتنطلق مؤسسة "الخلق العالميWeltethos" في مدينة Tübingen توبنغين الألمانية من القناعة القائلة بأن السلام فقط ممكن في حال تم البحث في الديانات بشكل علمي وموضوعي. أما النتيجة الأولى التي مازالت ماثلة والقائمة على أساس البحث في المبادئ والأسس فإنها تصب في "بيان ميثاق الخلق العالمي"، الذي أعلنه برلمان الديانات العالمية عام 1993 في مدينة شيكاغو. ولقد كانت الصيغة المبدئية من إنجازات الباحث في علم الأديان والكاثوليكي ذو الفكر المستقل، البروفسور كونغ، الذي يدير مؤسسة "الخلق العالمي Weltethos" في مدينة توبنغين التي تأسست عام 1995. أما تمويل المؤسسة فهو بفضل رجل الصناعة غراف فون غروبين Graf von Groeben، الذي وفر رأسمال هذه المؤسسة. ولقد إلتقى هاينريش بيرجشريسير Heinrich Bergstresserمع هانس كونغ بمناسبة كلمة كوفي عنان في توبنغين.

لم يكن بمحض الصدفة أن يطرح السؤال حول "الخلق العالمي" مع نهاية الحرب الباردة. ولقد طرح كونغ نظريته التي نالت إحتراما وتقديرا كبيرين والقائلة بأنه لن يكون هناك سلام عالمي بدون سلام بين الديانات، التي طرحها كونغ بنفسه في عام 1991 في المنتدى الإقتصادي الدوليWorld Economic Forum في دافوسDavos ، حيث قدم صيغته المبدئية حول السلام في الشرق الأوسط القائم على السلام الديني.

ولقد طور بدوره هذه النظرية إلى أن صاغ لاحقا "بيان ميثاق الخلق العالمي". وتنادي النظرية في لب ما تقول بالتخلي عن العنف وبالتضامن وبالتواضع وبالحقيقة والمساواة والخشية في الحياة وبنظام إقتصادي عادل، وتعتبر هذه المضامين مجتمعة من مبادئ روح الأخلاق العالمية. وبما أن برلمان الديانات العالمية إتفق على هذه المبادئ وإلتزم بها يكون بذلك قد أكد على أهمية النظم والمعايير المعترف بها، حيث ينبغي أن تصبح بذاتها قادرة على الحياة.

"تحتاج كل مجموعة اجتماعية إلى نظم وقواعد من أجل أن تصبح قادرة على العمل. وهنا يسأل المرء نفسه في مجتمع عالمي، ما هي تلك القواعد والنظم العالمية؟ ولحسن الحظ ليس من الواجب على الإنسان أن يبتدعها. إنها متوفرة في المنابع الكبرى للإنسانية منذ أمد طويل. فهناك على سبيل المثال التعاليم الذهبية في الديانة الكنفوشية "لا تتمنى لغيرك ما لا تتمناه لنفسك". إن هذا مبدأ يجب أن يجد تطبيقه في الحياة الخاصة، وينبغي أن يطبق بين المجموعات الأثنية، كما ينبغي تطبيقه في العلاقات بين الشعوب أيضا."

وعلى هذا الأساس وفي هذا المعنى فإن المؤسسة ملتزمة بدعم البحث متعدد الثقافات ومتعدد الديانات والعمل الثقافي والتواصل وإيجاد رأي عام دولي يصل للجميع. ولقد نجح رئيس المؤسسة كونغ على الدوام في التوصل إلى حضور ذي وزن سياسي عالي المستوى وبشكل إعلامي ناجح.

هل توجد اليوم قيم ذات صلاحية كونية؟

حيث قام كل من رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير بإلقاء كلمة في عام 2000م ورئيسة لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، التي كانت رئيسة إيرلندا السابقة، ماري روبنسون، بعد ذلك بسنتين بالتحدث في مدينة توبنغين. والآن (12/12) الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، الذي تحدث في المدينة الجامعية القديمة توبنغين، التي تقع على بعد ساعة واحدة بالسيارة عن مدينة شتوتغارت Stuttgart الألمانية.

ولقد ألقى كوفي عنان كلمة هامة جدا هناك حول مسألة: هل توجد اليوم قيم ذات صلاحية كونية؟ ولقد أجاب على هذا السؤال بنعم دون قيود أو تحفظات:

"إن قيم السلام والحرية والتقدم الإجتماعي والمساواة في الحقوق والكرامة الإنسانية يتضمنها بالكامل ميثاق الأمم المتحدة وموجودة في ميثاق الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان، وهي اليوم مازالت سارية المفعول كما هو الحال قبل نصف قرن من الزمن، يوم تمت صياغة هذا الميثاق من قبل ممثلي الشعوب والثقافات المختلفة."

وجود تغيير مبدئي

إلا أن هانس كونغ أيضا ومؤسسته يعرفان تمام المعرفة بأن هذه العملية طويلة وشاقة من أجل الوصول إلى تغيير في الوعي. إنه يرى وبوضوح مؤشرات تدل على تغير مبدئي في كافة أنحاء العالم. وهكذا فإن المعرفة بأن الإقتصاد بحاجة أيضا إلى البيئة وبأن التسلح العسكري وصل إلى طريق مسدود وبأن الحياة المشتركة تحتاج للرجل والمرأة، ما هي إلا تقدم هائل جدا.

ومن هنا فإنه من الممكن على هذا الأساس أن يكون بمقدور المرء أيضا السير قدما في مسألة التوصل إلى خلق روحي مشترك والتركيز بشكل أكبر على قواعد مشتركة، تضمن بدورها توفر عمليات تفاهم حول السلوكيات الأساسية. وبالرغم من كافة النواقص في أوروبا اليوم، فإنه يرى هناك بوادر هامة لها أيضا بالنسبة لأجزاء أخرى في هذا العالم طابع نموذج يحتذى.

"إن أوروبا هي فعلا تجسيد عملي لهذا النموذج، الذي بدأ يختلف عن النموذج السابق، حيث كان نموذج الصراع هو السائد سابقا، وخاصة في شكله العسكري، الصراع العنيف والصراع الثأري. أما اليوم فهو نموذج التفاهم المتبادل والتسامح والتعاون والإندماج. لقد بدأت أوروبا بهذا، وصاحب هذه العملية علل كثيرة، ونحن نعرف هذا كله. ولكنكم تعلمون بالرغم من ذلك بأن المرء يتمنى ومن صميم قلبه أي شيء من هذا القبيل ومما هو قائم في الإتحاد الأوروبي ليصبح حقيقة في أفريقيا السوداء. وكذلك الأمر بالنسبة لأمريكا الوسطى أيضا."

بقلم هاينريش برغشتسر، دويتشه فيلله ‏2003‏‏
ترجمة مصطفى السليمان