معاقبة التاريخ بالقوانين الجزائية

في نوافذ المتاجر في تركيا يشاهد المرء إعلانات كتب عليها: "قاطعوا البضائع الفرنسية". بدأ هذا الاحتجاج بعد أن وافق البرلمان الفرنسي على قانون لمعاقبة إنكار المذابح الجماعية التي اقترفت في تركيا بحق الأرمن إبّان الحرب العالمية الأولى. تقرير عمر إرزيرين

مظاهرات احتجاجية في اسطنبول على القانون الفرنسي لمعاقبة إنكار المذابح الجماعية ضد الأرمن، الصورة: أ ب
مظاهرات احتجاجية في اسطنبول على القانون الفرنسي لمعاقبة إنكار المذابح الجماعية ضد الأرمن

​​في نوافذ المتاجر في تركيا يشاهد المرء إعلانات كتب عليها: "قاطعوا البضائع الفرنسية". بدأ هذا الاحتجاج بعد أن وافق البرلمان الفرنسي على قانون لمعاقبة إنكار المذابح الجماعية التي اقترفت في تركيا بحق الأرمن إبّان الحرب العالمية الأولى. تقرير عمر إرزيرين

ينصّ هذا القانون على عقوبة بالسجن مدّتها سنة وغرامة مالية مقدرها 45.000 يورو. هذا وقد عمّت تركيا موجة من الاستياء بعدما تمّ الإعلان عن أنّ الجمعية الوطنية الفرنسية وافقت على مشروع القانون. لقد ردّت صحيفة "حريات" التركية على القرار الفرنسي بمقالة عنوانها "حرية، عدالة، غباوة".

أمّا وزير الخارجية التركي عبد الله غول فقد تحدّث عن "خسائر كبيرة بالنسبة لفرنسا". ومن جانبه اعتبر رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان هذا القانون بمثابة "نقطة سوداء" في تاريخ فرنسا. ثم استمرّت المظاهرات لعدّة أيام أمام السفارة والمصالح الدبلوماسية الفرنسية في تركيا.

ردود فعل صاخبة

وبالإضافة إلى ذلك دعت النقابات المهنية التركية إلى مقاطعة البضائع الفرنسية كما طالب بعض السياسيين الأتراك بإلغاء العقود الكبيرة التي أبرمتها تركيا مع الشركات الفرنسية وخاصة في مجال تجارة السلاح. وعلاوة على ذلك طرح سياسيون قوميون أتراك فكرة جريئة للغاية؛ إذ أنّهم طالبوا الدولة التركية بأن تقوم على الفور بإبعاد المهاجرين غير الشرعيين القادمين من أرمينيا والذين يعملون في تركيا - يصل عددهم حسبما يقال إلى عشرات الآلاف.

كذلك طالب بعض هؤلاء السياسيين بإصدار قانون ينصّ على أنّ فرنسا اقترفت في الحرب الجزائرية أعمالاً يجب تصنيفها كمذابح جماعية. وعلى الفور أصدر المجلس النيابي الخاص بمدينة إسطنبول قرارًا يقضي بإقامة نصب تذكاري في "شارع فرنسا" يرمز إلى "حرب التحرير الجزائرية" .

أسباب فرنسية داخلية

لقد كانت الأسباب التي دفعت إلى عرض مشروع هذا القانون على الجمعية الوطنية الفرنسية بالدرجة الأولى سياسية داخلية. ففي العام القادم سيتمّ إجراء انتخابات رئاسية في فرنسا لذا يأمل بعض السياسيين الفرنسيين بالحصول على أصوات الناخبين ذوي الأصول الأرمنية.

كذلك عقد بعض السياسيين الفرنسيين آمالهم على أن يعرقل اصدار مثل هذا القانون استئناف مفاوضات تركيا مع الاتحاد الأوروبي حول دخولها الاتحاد الأوروبي، وذلك لأنّ البعض لا يرغبون على كلّ حال رؤية هذا البلد المسلم في نادي بروكسل.

بيد أنّ هذه الحملة الفرنسية صادفت ترحيبا باردا من قبل الاتحاد الأوروبي، حيث ذكر رئيس المفوّضية الأوروبية خوزيه مانويل باروزو أنّ هذا القانون "غير مفيد"، كما قال المفوّض الأوروبي أولي ريهن المسؤول عن توسيع الاتحاد إنّ "هذا القانون يضرّ بالهدف المشترك".

كذلك يوجد خلاف في فرنسا حول هذا القانون. لقد دان بعض المؤرّخين البارزين مثل جون-بيير أزيما Jean-Pierre Azema ومنى عزوف Mona Ozouf وجون بيير فرنوت Jean Pierre Vernant هذه الحملة البرلمانية التي أدّت حسب تعبيرهم إلى قيام فرنسا بتبني مذهب تاريخي رسمي.

باموك: قانون ضد التراث الحر

إنّ الذين يحتجّون في تركيا على فرنسا ليسوا فقط من القومويين واليمينيين. وهذا القانون الذي يعاقب الآراء الخارجة عن مفهوم الدولة للتاريخ، يواجه في تركيا معارضة من قبل الذين تعرّضوا للاضطهاد وذلك لأنّهم تحدّثوا عن المذابح الجماعية التي اقترفتت بحق الأرمن؛ مثل الكاتب أورهان بابوك الحائز على جائزة نوبل للآداب، الذي تطرّق في حديث معه إلى المذابح الجماعية التي اقترفت بحق الأرمن.

إذ رُفعت ضدّه في العام الماضي دعوى بسبب "الطعن بكلّ ما هو تركي". حيث وقعت بعض المشاهد الشنيعة أمام قاعة المحكمة، وذلك عندما قامت بعض المجموعات الفاشية بقذفه بالبيض. ولم يتمّ إغلاق ملف الدعوى المرفوعة ضدّه إلاّ بعد احتجاجات عارمة جرت في داخل البلاد وخارجها على نطاق واسع.

وبعد أن سُئل عن القانون الصادر في باريس تذكّر الكاتب أورهان بابوك الكاتبين الفرنسيين إميل زولا وجان باول سارتر قائلاً: "إنّ هذا القانون لا يتناسب قطّ مع التراث الحرّ ومع الثقافة الفرنسية العظيمة. فهو بشع بالنسبة لحرية التعبير عن الرأي". كذلك انزعج من القانون الناشر التركي رجب زاراكولو الذي يلاقي دائمًا وأبدًا مضايقات من القضاء التركي، وذلك بسبب نشره كتب تتحدّث عن المذابح الجماعية التي ارتكبت بحقّ الأرمن.

إنّ أولئك الذين خرجوا في تركيا بجرأة على محرّمات الدولة وجرت مقاضاتهم قانونيا بسبب ذلك يستنكرون سعي الفرنسيين الآن من أجل معاقبة الآراء التاريخية "الخاطئة" بقوانين جنائية. فهذا القانون بمثابة ضربة في وجه الذين يكافحون من أجل معالجة التاريخ من دون قوانين جنائية، كما أنّه يزيد من قوّة أولئك الذين يسعون إلى المحافظة على الأوضاع الراهنة بما فيها من حرمات قومية.

من بين الأرمن الذين يحملون الجنسية التركية والبالغ عددهم حوالي سبعين ألف أرميني هناك من يخشى من أن يؤدّى هذا القانون الذي تمّ إقراره في باريس البعيدة إلى زيادة قوّة القومويين اليمينيين المتطرّفين في تركيا. حيث احتجّ على القانون كبار ممثّلي الجماعات الأرمينة في تركيا.

أرمن ضد القانون

إذ أنّ رئيس تحرير مجلّة "آغوس" Agos الأرمنية التي تصدر في إسطنبول، هرانت دينك الملاحق قضائيًا من قبل بعض المدّعين العامين الأتراك لأنّه يتحدّث عن مذابح جماعية، وصف هذا القانون بصفة "الخزي والعار". وقد أعلن عن أنّه سوف يسافر إلى فرنسا لاحتجاجه على القانون، ولكي ينكر المذابح الجماعية على الرغم من أنّ هذا يتنافى مع رأيه الخاص.

كذلك ظهر القلق على بطريق إسطنبول الأرمني، الأب مسروب الثاني Mesrob، في حديث طويل أجرته معه صحيفة "مليت" اليومية التركية: "إنّ هذا القانون الذي صدر مؤخّرًا في فرنسا يغذّي المجموعات القوموية والعنصرية، التي تغلق طريق الحوار وبسببه سوف تبدأ عملية جديدة".

هناك فرق شاسع ما بين الأرمن الموجودين في الشتات والأرمن الذين يعيشون في تركيا. ففي حين يصرّ الأرمن في الشتات على تعريف المذابح التي اقترفت في العام 1915 كمذابح جماعية، نجد الأرمن في تركيا منشغلين بالدرجة الأولى بتدبير شؤون حياتهم اليومية من دون تعرّضهم للتمييز. إذ أنّهم يراهنون تمامًا مثل بطريق إسطنبول على تحسُّن علاقات تركيا مع جارتها الفقيرة أرمينيا.

بيد أنّ الأزمة الأرمينيةـالأذربيجانية حول منطقة جبل كاراباغ الموجودة ضمن التراب الأرمني تحول دون تحسُّن العلاقات مع تركيا. حيث تغلق تركيا حدودها مع أرمينيا منذ عدّة سنين بسبب مصالحها الاقتصادية التي تربطها بأذربيجان من خلال خطّ أنابيب باكو-جيهان. من الممكن أن يساهم فتح الحدود وبدء حوار أرميني-تركي في تخفيف حدّة التوتّر السياسي بين البلدين. اقترح رئيس الوزراء التركي على أرمينيا أن يُعنى فريق من مؤرّخي كلا البلدين بموضوع التاريخ العثماني.

بعيدا عن قوانين العقوبات

لقد تمّ في تركيا ولأكثر من قرن تقريبًا تحريم التطرّق إلى موضوع المذابح التي ارتكبت بحقّ الأرمن أثناء الحرب العالمية الأولى . لكن بعض المثقّفين الأتراك لم يبدأوا إلاّ في السنين الأخيرة بمعالجة تاريخهم الخاص بصورة علنية. إنّ التمكّن من عقد مؤتمر أممي في إسطنبول شارك فيه أيضًا مؤرّخون أرمن على الرغم من مظاهر التهديد ومحاولات منع المؤتمر لهو بمثابة نصر عظيم.

فيا حبّذا لو ينتهي هذا الجدال الذي بدأ ينمو مؤخّرًا بسبب قانون فرنسي. ومع ذلك يظهر أنّ الفرص غير سيّئة. فبعد النداء الأوّل أصبحت الحكومة في أنقرة تحاول الحدّ من الخسائر. إذ لا يزال من المفترض أن يتمّ التصديق على هذا القانون من قبل مجلس الشيوخ الفرنسي. كما أنّ القانون لا يزال بحاجة لموافقة رئيس الدوله عليه. هناك دلائل كثيرة تشير إلى أنّ الأمور لن تصل إلى هذا الحدّ.

"لا يجوز لنا أن نواجه الخطأ بخطإ" على حدّ قول قول إردوغان. وهكذا أعرب وزير الخارجية التركي عبد الله غول عن أمله في إمكانية إعادة النظر في المادة 301 من قانون العقوبات التركي، الذي يعاقب على "الطعن بكلّ ما هو تركي". أمّا إلغاء القانون فسيشجّع من دون شكّ الذين يريدون معالجة تاريخهم الخاص بعيدًا عن قوانين العقوبات.

بقلم عمر إرزيرين
ترجمة رائد الباش
حقوق الطبع قنطرة 2006

قنطرة

جدل في فرنسا حول القانون الخاص بإبادة الأرمن
يرى برنارد شميد أن القانون الذي سنته فرنسا حول إنزال عقوبات بمن ينكر الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن في تركيا في أواخر أيام الحكم العثماني له علاقة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية الفرنسية التي ستجرى في خريف العام القادم. تقرير كتبه برنارد شميد من باريس

ملف أورهان باموك
منحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب للروائي التركي أورهان باموك. نعرفكم هنا بالكاتب، بأهم أعماله وبمواقفه من العديد من القضايا التركية

كفاح من أجل الحقيقة والسياق التاريخي السليم
احتى بعد انقضاء 90 عاما على المذابح، ما زال لمسألة العلاقة بين جمهورية تركيا الفتية والأرمن وقع تلاطم الأمواج الهائجة. إلا أن هناك اهتماما متزايدا بأبحاث المؤرخين الساعين إلى دراسة هذه القضية في سياقها التاريخي الحقيقي.تقرير يورغين غوتشليش