نحو مزيد من التسامح والاندماج

هل يصح أن نعلن عن فشل ليبرالية وتسامح بلد ما لمجرد أن متعصبا قد اقترف جريمة شنيعة ؟ بيتر فيليب يتساءل في التعليق اللاحق.

قد يخيل للمرء أن أوروبا تقف حاليا على عتبات اندلاع حرب. وكما أن اغتيال سراييفو قد مثل في ما مضى القادح الذي أشعل فتيل الحرب العالمية الأولى، كذلك غدا اغتيال السينمائي الهولندي اليوم يقدم من طرف بعض ممن يعلنون أنفسهم "اختصاصيين" في قضايا الإسلام أوالإرهاب ( والظاهرتان قد غدتا تتممان بعضهما اليوم على أفضل وجه) على أنه المؤشر على "صراع الحضارات" الذي طالما نودي باقتراب وقوعه في السنوات الأخيرة. صراع لم يعد يخاض بالكلام بل بالأسلحة، ومداره في المدى البعيد هو السيطرة على أوروبا.

هكذا يحذر محرر من صحيفة "دي فيلت Die Welt " الألمانية المحافظة من الإسلاميين: "مستندين إلى مرجعية إسلام القرن السابع يطمح هؤلاء إلى "إعادة تركيز نظام إسلامي" يعتبر في نظرهم الشكل الاجتماعي والحكومي الشرعي الوحيد. شكل ينبغي أن يحل محل كل الأنظمة المغايرة الأخرى". وفي الصحيفة نفسها يطلق منتقد الإسلام هانس بيتر راداتس العنان لمواقفه معتبرا أن الدولة تمكن المتطرفين من تركيز شبكات نشاطات تحت حماية ما يسمى بـ"الحوار" الذي لا هدف لـ"المغمورين بحمايته" سوى: "أن يحيوا وفقا لقوانينهم الخاصة وأن يقوضوا أسس دولة القانون الديموقراطية".

أقل حدة، لكن ليس أقل تهورا تأتي آراء "اختصاصيين" آخرين ما فتئوا منذ اغتيال أمستردام يشيعون نعي التسامح و الطابع الليبرالي لهولندا ويرون في ذلك السبب الوحيد لانتشار العنف، لأنه قد سُمح لأكثر مما ينبغي من المسلمين بالإقامة في البلاد دون تبصر أو تدبر؛ ما يقارب المليون نسمة وهو ما يعادل بالنسبة لعدد سكان هولندا حوالي ضعف ما يوجد بألمانيا.

هل يصح أن نعلن عن فشل ليبرالية وتسامح بلد ما لمجرد أن متعصبا قد اقترف جريمة شنيعة ؟ ولأن مقترف الجريمة قد تحول إلى متعصب من هذا النوع من خلال معاشرته لجماعة إسلامية متطرفة؟ ومهما كان الأمر غير محبذ، فإن ذلك يمكن أن يحدث في كل مكان؛ في كل بلد. فالمتعصبون والمرضى نفسيا موجودون في كل مكان. وبخاصة في هذا الزمن حيث غدا الدين يستعمل أكثر فأكثر لأغراض سياسية.

في مواجهة النعيق الكارثي الذي يتعالى منذ اغتيال تيو فان غوغ، فإن الدرس الذي ينبغي أن يستخلص من الأحداث هو: الدفع إلى الأمام بعملية إدماج أصحاب العقائد المغايرة -لا المسلمون فقط- الذين يقيمون بيننا. والاندماج لا يعني الانسلاخ عن الثقافة الأصلية الخاصة. لا بد من احترام الخصوصية، وعلى هذه فقط أن تنتظم في سياق النظام الحقوقي الذي يتسم فعلا بالتسامح والتفتح –هنا في أوروبا على الأقل-: من يريد الحياة هنا ينبغي عليه أن يقبل بالنظام الاجتماعي والحكومي لمحيطه وإلا فإنه سيجد نفسه مع مرور الزمن في غير موقعه.

إلا أنه على هذا النظام الاجتماعي السائد أن يضمن بدوره ويمارس هذه الحرية والليبرالية والتسامح تجاه "الآخرين"، تلك القيم التي ينتقدها اليوم أصحاب الرؤية السوداوية بخصوص الحالة الهولندية. في حين لا يذكر هؤلاء المنتقدين كلمة واحدة عن كون المخرج المغتال، وبقطع النظر عن المقاصد الحسنة لعمله، قد مس في العمق مشاعر المسلمين بشريطه ذي الطابع الاستفزازي الواضح للعيان.

إن هذا ليس مبررا للعنف، بكل تأكيد. لكن، وكما سبق خلال موجة الاستنكار العالمية التي ووجه بها فيلم "آلام المسيح" (ميل جبسون) وفي حالات أخرى مماثلة، فإن هناك موضوعة تظل تطرح نفسها على الدوام وهي أن الحرية الفنية لا يمكن ولا ينبغي لها هي أيضا أن تكون دون حدود. بل ينبغي عليها –كما بالنسبة لبقية الحريات – أن تقف عند الحد "الذي تبدأ فيه حرية الآخر". وإذا ما كان هناك فشل قد منيت به الليبرالية والتسامح، إنما في هذا المجال.

بيتر فيليب

ترجمة علي مصباح

© DEUTSCHE WELLE/DW-WORLD.DE 2004