نحن حصيلة مجموع جراحاتنا

فينوس خوري غاتا الكاتبة اللبنانية التي تقيم في باريس أصدرت ما يزيد عن الثلاثين كتابا من روايات ومجموعات شعرية، كما حصلت على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة. في هذه السنة تكون فينوس خوري قد بلغت السبعين من العمر. مارتينا صابرا التقت الكاتبة وأجرت معها هذا الحوار.

فينوس خوري غاتا، الصورة: د ب أ
الكاتبة الفرنسية اللبنانية خوري فينوس غاتا

​​

فينوس خوري غاتا، لقد قضيت النصف الأول من حياتك في لبنان فأية ذكريات طفولة ظلت ترافقك؟ وما هي الأماكن التي تركت أثرا فيك؟

فينوس خوري غاتا: كنا أربعة أطفال: ثلاث بنات وولد. وكنا نقضي تسعة أشهر من السنة في بيروت ببيت والدي الذي كان طاغية يبث فينا الرعب. لذلك كنت أشعر بالنقمة على بيروت. لكن الأمر كان يختلف عن ذلك كليا خلال إقامتنا الصيفية في بشري، تلك القرية الجبلية من شمال لبنان التي تنحدر منها أمي ومسقط رأس الشاعر اللبناني الكبير جبران خليل جبران.

كانت الأشهر الثلاثة لإقامتنا هناك عبارة عن تحرر حقيقي. حالما نصل إلى هناك كنا نخلع أحذيتنا وجواربنا وننطلق في الركض حفاة مثل بقية أطفال القرية. كنا نتناول ثمارا نقطفها مباشرة من الأشجار ونلعب ألعابا رائعة. وقد كانت لحريتنا تلك نكهة ذات طابع مقابري إلى حد ما. فقد كان خالي صاانع توابيت وكنا نستعمل التوابيت المصففة في هيأة عمودية إلى جدران ورشته مخابئ خلال لعبنا. كان الموت أمرا عاديا بالنسبة لنا، شيء لا يخيفنا. وقد كان لتلك العلاقة الملاعبة للموت تأثير على نوعية كتابتي فيما بعد.

للأب الطاغية حضور واضح في قصصك، لكن كيف كانت علاقتكم مع الأم؟

خوري: لقد علمتني تلك المرأة التي كانت طوال حياتها تعيش حالة خوف مستمر من زوجها أن لا أخاف أي رجل من بعدها. أي رجل! فلمجرد أن ألاحظ أن رجلا ما يسعى إلى فرض سيطرته علي أثور بكل ما أوتيت من قوة.

لقد استطعت أن أثبت لثلاث عشرة سنة من الحياة الزوجية مع زوجي الأول. واليوم أراني شييهة بتلك الماعز العنيدة لقرية بشري التي تتسلق الجبل بإصرار حتى بلوغ القمة ولا شيء يستطيع أن يصدها عن ذلك. وأنا عندما أرى ماعزا تكون لدي أحيانا رغبة في أن أرتمي عليها بالأحضان!

لقد أصدرت أكثر من 30 كتابا بين نثر وشعر وكلها تقريبا باللغة الفرنسية. وقد توجت أشعارك بجوائز من بينها جائزة أبوللينير المرموقة. لكن لغتك الأصلية هي العربية، فكيف تم لديك قرار اختيار الكتابة باللغة الفرنسية؟

خوري: عندما قدمت إلى فرنسا في بداية السبعينات كنت أعيش صراعا حادا أثناء الكتابة. كان يبدو لي أن احتداما مدويا يحدث في ذهني، شيء شبيه بقرقعة سيفين في مبارزة. كنت آنذاك أستخدم تعابير عربية وتراكيب لغوية من العربية في كتابتي بالفرنسية. وقد تواصل الأمر على هذ النحو حتى ذلك اليوم الذي انقطعت فيه كل صلة لنا بلبنان بسبب الحرب، ولم يعد بإمكاننا أن نقرأ شيئا بالعربية، إلا في ما ندر.

عندها قلت لنفسي: الآن سيكون عليك أن تتخلي نهائيا عن لغتك العربية، وقد شعرت بالحزن لذلك. أما اليوم فأنا سعيدة باختياري للغة الفرنسية. وعندما أقرأ الآن رواياتي مترجمة إلى اللغة العربية تتراءى لي جمل الحوارات متحجرة شبيهة بكتل من الإسمنت المسلح. فاللغة العربية الفصحى غالبا ما تبدو غاية في الثقل، غاية في الفخفخة المتقعّرة. فكيف يمكن للمرء أن يصوغ من خلالها حوارات ذات حيوية إذًا؟

هل كان لاختيار اللغة الفرنسية تأثير على محتوى كتاباتك أيضا؟

خوري: لا أعتقد. صحيح أنني أعيش في فرنسا وقد نشرت أكثر من ثلاثين كتابا هنا. لكن ليس هناك كتاب واحد من كتبي يتخذ فرنسا أرضية لمحتواه. لم يخطر لي ولا مرة واحدة أن أجعل الفرنسيين ينطقون من خلال ما أكتبه، بل كنت وما زلت أستوحي مواضيعي وقصصي وشخصياتي كلها من الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط.

لقد عرفت منذ سنوات شبابك العديد من المصاعب والنكسات، فكيف نجحت في النهوض على قدميك ومواصلة الكتابة؟

خوري: نحن حصيلة مجموع جراحاتنا. في سنة 1981 انتزع الموت زوجي الأول جون غاتا وهو في سن الثانية والخمسين وفي غمرة حياة مكللة بالنجاح. وقد تركني عندها مع ابنتنا الصغيرة لوحدنا. ومنذ ذلك الحين أصبح لي إحساس بأن كل ما أحبه ينزلق من بين أصابعي مثل الرمل، وأنه لن يكون بإمكاني أن أتوصل إلى حالة من الوفاق مع نفسي إلا عندما أكف عن السعي وراء حبّ رجل ما. وعوضا عن ذلك رحت أحاول أن أعيد صياغة ذاتي من خلال الكتابة. وهكذا أحتلت الكتابة لدي مكان الزوج والأخ والحب ايضا.

لقد أثر فيك بصفة خاصة مصير أخيك الذي وجد نفسه بسبب الإدمان على المخدرات يودع بموافقة أبيك إلى مصحة علاج نفساني وهو في الواحدة والعشرين من العمر، وقد انتهت طرق المعالجة التي تلقاها هناك ومن بينها استخدام العلاج بالصدمات الكهربائية التي امتدت على عشرات من السنين إلى تدميره كليا. وقد عدت إلى تناول قصته وقصة والديك أيضا في العديد من رواياتك. فهل لك أن تحدثينا عن ذلك؟

خوري: لسنوات عديدة لم يكن بإمكاني الاتصال بأخي. فقط بعد وفاة والديّ أصبحت أشعر بأنني غدوت حرة أخيرا كي أكتب عن قصتنا. لكنه لم يعد بإمكاننا أن نتفاهم حول هذه المسألة. وفي الأثناء توفي أخي أيضا. وستظل حكاية أخي تلاحقني على الدوام. فقد أحببته كثيرا، لكنني كنت مقصرة في العمل من أجل إنقاذه، ومن أجل حمايته. وإلى الآن مازلت ألوم نفسي على ذلك بين الحين والحين.

في روايتك الأخيرة "سبع حَجرات للزانية" التي صدرت مؤخرا في فرنسا تروين قصة امرأة من إيران قد تم رجمها بتهمة الزنا. وهنا في الغرب يوجد ميل إلى تقليص صورة العالم العربي واختزاله في مثل هذه الصورة الشنيعة. ألا تخافين من الوقوع في خدمة الكليشيهات الاستشراقية؟

خوري: أرى أن النقاش حول الاستشراق مهم للغاية. وقد كنت دوما أكن احتراما كبيرا لإدوارد سعيد الذي اشتغل على هذه المسألة. وأعتبر أن وفاته كانت خسارة جسيمة بالنسبة للعالم العربي. لكنني لا أكتب مطارحات نظرية، بل روايات. ورواياتي على أية حال ليست مضمخة بماء الورد كما هو الشأن في روايات بيار لوتي. إنني أروي عن الشرق بلغة هي لغتي الخاصة، لغة لم أستلفها من أحد.

تحتفلين في هذه السنة بعيد ميلادك السبعين. وبالنسبة للعديد من معاصراتك تمثل سن السبعين مناسبة للتخفيض من وتيرة النشاطات. أما أنت فنراك ترفعين من معدل السرعة. فمن أين تستمدين هذه الطاقة؟

خوري: إنني أخضع نفسي إلى نظام محكم الانضباط. أستفيق في ساعة مبكرة في كل يوم وأبدأ يومي بكتابة عملي الروائي الخاص وقصائدي. بعدها ألتفت إلى الاعتناء بقططي وبأعمال الكتاب الآخرين. فأنا عضو في أكثر من عشر لجان تحكيم أدبية. وذلك يعني أنه علي أن أقرأ الكثير، ثم إن النقاشات تتم غالبا في بيتي. بعدها لا نذهب إلى مقهى أو مطعم بل نتناول عشاءنا معا في البيت: أكلات لبنانية بطبيعة الحال!

أجرت الحوار مارتينا صابرا
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2007

قنطرة

ياسمين غاتا: "ليل الخطاطين"
تروي ياسمين غاتا في "ليل الخطاطين" سيرة حياة واحدة من الخطاطات القلائل في تاريخ تركيا. إمرأة كرست حياتها للخط، اتخذته وسيلة للدفاع عن نفسها، اكتشفت فيه القوة المغيرة وجعلت منه حيزا آمنا بعيدا عن صخب التاريخ.