بحث دائم وفرار متواصل

في شريطه السنيمائي الرابع يتخطى المخرج الكردي باهمان غوبادي حدود الواقعية الاجتماعية لينجز صورا سينمائية غريبة تراود تخوم السوريالية. أمين فرزانفار يقدم لنا هذا الشريط الكردي من "سينما الطريق".

​​

منع شريط غوبادي في إيران يعد من باب السخرية المرة، وفي الوقت نفسه فقد غدا هذا الأمر منذ مدة طويلة فرضا إجباريا يُمتحن به كل فيلم إيراني ذي مستوى فنّي رفيع.

في زمن يتسم بهوس التخوفات السياسية، حيث النظام السياسي يغذي الاعتقاد بأنه مهدد من طرف القوى الأجنبية، فإن ما يؤخذ على السينمائي الكردي الوحيد المعترف به في إيران هو التحريض على الانفصالية.

ومع ذلك فإن شريط غوبادي "الهلال" لا يمكن اعتباره سياسيا إلا في حيز هامشي منه: الشريط يروي في الأساس قصة ثرية التنوع للموسيقار العجوز المعلم مامو، الذي يبلغه نبأ مهرجان موسيقي كردي سينظم لأول مرة بعد سنوات طويلة من اضطهاد الأكراد في العراق.

ترحال دائم واضطراب داخلي

تماما كما في فيلم "العراق الضائع" يستحضر غوبادي في هذه المرة أيضا شاحنة متداعية مليئة بالموسيقيين ويجعل مامو العجوز يستجمع في طريقه أولاده المتقدمين في السن بدورهم ليأخذهم في رحلة باتجاه الحدود العراقية.

في الطريق يلتقي هؤلاء بنماذج لشخصيات ونوادر من تلك التي تتأسس عليها "سينما الطريق" (Road-Movie) كنوع تغتذي مكوناته من حركة شاحنة تتنقل عبر أرجاء البلاد.

والتنقل على أية حال حركة دائمة في كردستان: فرار مستمر وبحث متواصل عن مكان للإقامة؛ ترحال جسدي كصورة خارجية مجسدة لاضطراب داخلي. كذا هي أغلب مواصفات طبائع الشخصيات التي يسيطر عليها التوتر والانفعال؛ شخصيات غالبا ما نراها تزمجر، تنطوي على غضبها الصامت، تبكي، ثم تواصل الأمور مسيرتها من بعد كأن شيئا لم يكن.

عالم سحري عجيب وعناصر حداثية

إن تخطي غوبادي في شريطه الرابع لحدود الواقعية الاجتماعية التي حرص كل الحرص على ملازمتها في شريطه الأول "زمن الجياد السكرى" قد أدى إلى إنجاز صور سينمائية غريبة واقعة على تخوم السوريالية:

رجال يتدلون معلقين من أرجلهم فوق الأشجار، أموات يعودون من الموت لحظة دفنهم، مشهد بانورامي يكشف عن قرية فيها 1334 من أجمل الموسيقيين المبعدين، ثم يجد المرء نفسه مندمجا في قلب حلقة للدراويش.

تتخلل هذا العالم السحري العجيب لمسات من واقع الحداثة: في الأثناء يسحب مامو هاتفا جوالا يرن من داخل معطفه الرمادي الطويل، ومرة أخرى يخرج أحدهم حاسوبا محمولا من مكان ما ويشرع في مقارنة مسارات فرق الموسيقيين الجوالين على صفحات غوغل بوساطة الـWLAN.

أحد الأبناء يظل يركز على مراقبة السماء ويتنبأ بمسيرة غير سعيدة للرحلة؛ نبوءة مشؤومة أولى في الرحلة الأخيرة للموسيقار العجوز. داخل هذا المحيط السحري تبدو المقدرات التقنية للأشخاص بمستوى لا يفي بالغرض: الصديق كاكو مثلا يظل يصور الرحلة بكاميرا فيديو ليكتشف في ما بعد بأنه لم يضع شريط تسجيل داخل الكاميرا.

السينما: النور الوحيد الذي يضيء إيران

شخصيات مضحكة تتحكم في حياة ملؤها الفاقة بكثير من الفكاهة والثبات دون أن تجنح بعيدا عن الواقع. وذلك هو ما يجعل أفلام غوبالدي متيسرة الفهم في العالم كله، إضافة إلى ما تمنحه من طراوة منعشة و من صور تقدم إنارة عن منطقة غالبا ما ظلت تغمرها ظلال الإهمال على شاشات عالمنا الغربي.

وفي المجمل فإن الأفلام الايرانية تظل غائبة عن المهرجانات السينمائية الأوربية الكبرى. ويبدو أن الموقع المتميز الذي كان لها دون منازع منذ زمن طويل قد تم تجاوزه نهائيا من طرف موجة السينما الفنية (Arthouse) الآسيوية.

فهل يعود هذا إلى نوع من الإعياء الذي أصاب القطاع بسبب سنوات طويلة من الرقابة والعزلة، أم إلى خيار انطواء ثقافي يقف عائقا أمام التجديد وإعادة صياغة الذات؟ هذا السؤال الذي يطرح نفسه الآن لهو أكثر من سؤال مشروع في الوقت الحالي.

سجل الإستعارات

والثابت على أية حال هو أن باهمان غوبادي قد توصل إلى تبوء موقع العنصر القار وذي المصداقية الفنية داخل المشهد السنمائي العالمي. وقد مكنه التعاون مع معلمي السينما الإيرانية الكبار من أمثال كيروستامي وماخملباف من تطوير لغته السينمائية الخاصة، دون أن يقع في ما وقع فيه العديد من زملائه من التحول إلى مجرد مقلد.

وخلافا لما يطغى على السينما الإيرانية من تقشف شكلي مدقع يقدم هذا السينمائي الشاب (36 سنة) نوعا من الخليط السينمائي متعدد الألوان: صراع ديكة وتوابيت متنقلة على طريقة كوستوريكا، توليفات لصور مشهدية بديعة على غرار المعلّم الجيورجي باراداجانوف، تنضاف إليها وخزات سياسية لاذعة موجهة ضد رجال الجيش الإيراني وحراس الحدود الذين يعمدون أثناء عملية مراقبة طُرقية إلى تحطيم الآلات الموسيقية للمغنّين.

هذا الخليط يحجب ما كان يطرأ على القصة من انحراف عن مجراها الأصلي بين الحين والحين وتورطها في متاهة تلك الانحرافات. وبين الحين والحين كان الصخب والطابع الضاج والفلكلوري يبرز على حساب الدقة التي كان غوبادي منذ باكورة عمله الطويل مع شريط "زمن الجياد السكرى" قد دشن بها رؤية جديدة للحياة الكردية.
ومع ذلك فإن الممازجة التي يقوم بها بين عناصر الموسيقى والأسطورة والسجل الثري للاستعارات تأتي مقنعة مشهديا، بصفة مقتضبة حينا وبطريقة بالغة التأثير حينا. وتظل الصورة التي تعود باستمرار هي تلك التي تتعلق بمنع مغنيات الأداء الفردي الإيرانيات من الغناء، صورة كان غوبادي قد وظفها منذ شريطه الثاني كرمز عن كردستان المحكوم عليها بفريضة الصمت الإجباري.

أن تكون ايرانيا، أن تكون كرديا ....

دوران أنثويان صغيران لكنهما محوريان: دور المغنية هيجو، و دور نِيوِيمان (الهلال) الغامضة، يوكل بهما المخرج إلى ممثلتين من نجوم التمثيل في إيران، هما هادية طهراني(36 سنة) والشابة غولشيفتاه فاراحاني التي تصغرها بـ 13 سنة واللتان يحتفى بهما كنموذج عن جيلين من الإيرانيات الفتيّات.

تهمة التحريض على الانفصالية تبدو متهافتة إذن: أن يكون المرء كرديا، أو إيرانيا، فذلك لا يمكن أن بعني بالضرورة تناقضا في حد ذاته، كما يصرح السينمائي الذي يقيم في طهران منذ سنوات عديدة.

وعندما لا يكون غوبادي بصدد العمل في كردستان فإنه يظل يجوب العالم دون كلل مدفوعا بالمهمة التي وضعها لنفسه، وهي الإسهام في تشكيل صورة جديدة عن ثقافته. وسيقوده عمل التصوير القادم إلى وجهة أخرى هذه المرة: إلى قلب بغداد.

بقلم أمين فرزانفار
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2007

قنطرة

10 دور سينما لأكثر من 40 مليون إنسان
مشهد من فيلم "يمكن للسلاحف أن تطير" للمخرج باهمان غوبادي حصل فيلم "يمكن للسلاحف أن تطير" للمخرج باهمان غوبادي في مهرجان برلين السينمائي Berlinale على جائزة "فيلم السلام". الفيلم يواجه المشاهدين بالوضع الحالي في كردستان العراق. اريانا ميرزا تكتب عن غوبادي والسينما الكردية.

السينما الإيرانية
تحصد الأفلام الإيرانية منذ سنوات في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية جوائز متميزة. قنطرة تتناول في الملف التالي سر هذا النجاح وتطرح السؤال عن جودة السينما الإيرانية