الصحافيون المستقلون على قائمة الملاحقات

تكرّرت اعتداءات بالعنف والترهيب على عدد من الصحافيّين المستقلّين في تونس في الفترة الماضية وكان آخرها واقعة احتجاز صحافيين بقناة "الحوار التونسي" بمخافر البوليس وانتزاع معداتهم. سليم بوخذير يسلط الضوء على واقع الحرية الصحافية في تونس.

صورة رمزية لشبح القيود على حرية التعبير في تونس
"مضايقة الصحفيين المستقلين هي أشبه باستهداف جماعي لإعلاميين معروفين باستقلاليتهم"

​​ يُعيد كلّ هذا طرح نفس نقاط الاستفهام من جديد عن أسباب حالة هذا التوتّر المتواصل من جانب السلطات التونسيّة إزاء فئة من الصحافيّين والمراسلين لعدد من وسائل الإعلام بالخارج عُرفوا باستقلاليتهم عن خطّ الإعلام الحكومي. فقبل تعرّض صحافيي قناة "الحوار التونسي" بقرابة أسبوعيْن للاحتجاز، كان ثلاثة صحافيين مستقلين هم لطفي حجي ومحمد الحمروني وإسماعيل دبارة قد تعرّضوا للضرب، كما حاصرت سيارات البوليس في اليوم نفسه منزل الصحفي المستقل لطفي الحيدوري مراسل وكالة "قدس برس للأنباء"، فيما يتواصل -إلى غاية إعداد هذا التقرير- التتبع القضائي لصحيفة "الموقف" المعارضة على خلفيّة مقالاتها الجريئة .

ونحن لا نبالغ إذا قلنا إنّ المسألة تبدو وكأنّها محاولة لـ"استهداف جماعي" لصحافيّين تجمعهم خصال معيّنة، من الواضح أنّ السلطات التونسيّة لا تقبل بها البتّة. فالذي يجمع كلّ من تعرّض من الصحافيّين مؤخرا إلى الاعتداء ، هو أنّهم جميعا مُراسلون لعدد من وسائل الإعلام بالخارج ومعروفون باستقلاليتهم وحياديّتهم في ما يكتبون من أخبار عن الأحداث التونسيّة وأنّهم أيضا ممّن يغطّون أحداثا موصوفة بأنّها "مُتكتّم عنها" في وسائل الإعلام المحلّية .

هل هي حملة مقصودة قبل الانتخابات الرئاسية؟

ولذلك نتفهّم لماذا ذهبت بعض المنظّمات المدافعة عن حرّية الصحافة إلى اعتبار هذه الاعتداءات بمثابة "محاولة تأديب جماعي" لصحافيّين تمسّكوا باستقلاليتهم ، وذلك من أجل "إخضاعهم" إلى مشيئة قوى متنفّذة في الحكومة ترفض نشر تغطيات محايدة عن بعض الأحداث في البلد في وسائل الإعلام بالخارج . بل إنّنا لا نرى أنّه من المبالغة القول إنّ هناك ترابطا بين الحملة التي شنتها سابقا عديد الصحف القريبة من الحكومة ضدّ الصحفيّة المعروفة بانتقاداتها اللاذعة للحكومة سهام بن سدرين وبين الاعتداءات المتكرّرة على الصحافيين المستقلّين بعد ذلك .

فليس غريبا – من وجهة نظر واعية- أن يكون ما جرى هو فعلا محاولة مقصودة وشاملة تهدف إلى إخراس كلّ صوت إعلاميّ لا يسير في ركب الحكومة قبل استحقاق الانتخابات الرئاسيّة المقرّرة في أيلول القادم والذي من الواضح أن الحكومة راغبة في أن يكون مهرجانا للتمديد لمرشحها الرسمي الرئيس بن علي بما لا تسمح معه بأي "تشويش إعلامي" بنشر أخبار مغايرة للأخبار الرسمية أو آراء مخالفة.

وفي هذا الخصوص، يمكن لنا التساؤل بجدّية: هل تكون هذه الحملة الهادفة لترهيب الصحافيين المستقلّين بتونس والتي من الواضح أنّها متواصلة ، بأنّها كانت بمثابة عمليّة "فكّ شفرة" فقرة هامّة غير واضحة كانت وردت في كلمة الرئيس التونسي في ذكرى تولّيه الحكم في 7 نوفمبر- تشرين الثاني الماضي، وجّه فيها الانتقاد إلى من وصفهم ب "الدخلاء على المهنة (الصحفيّة) ومحترفي الافتراء بنشر الأكاذيب والنيل من مصالح البلاد العليا".

لم يحدّد الرئيس التونسي يومها هؤلاء بالاسم ، ولكن من هُمْ الذين يمكن أن يكونوا معنيين بكلامه؟ من هم الذين تعتبرهم الحكومة "دخلاء" على المهنة وترفض منهم بطاقاتهم المهنيّة كصحافيين وتنال أيادي البوليس السياسي من سلامتهم بين الفينة و الأخرى، إذا لم يكونوا هؤلاء الصحافيين المستقلّين من مراسلي وسائل الإعلام بالخارج ؟
وبهذا المعنى ، ألا تكون الاعتداءات الأخيرة هي صدى طبيعي لِغضب حكومي مّا من هؤلاء ؟ وهل نفهم أنّ في انتظارهم المزيد لا سمح الله ؟

صمود صحافيين .. و "تنكّر" للمعاهدات الدولية

صورة رمزية لمنع حرية الصحافة
"ممارسات الحكومة التونسية محاولة لإخراس كلّ صوت إعلاميّ لا يسير في ركبها"

​​ لسنا نُبالغ حين نرى أنّ صورة حرّية الصحافة هي قاتمة تماما في تونس وأنّ الاعتداء على الصحافيين هو خُبز شبه يوميّ للصحفي في تونس كلّما تعلّق الأمر بقلمٍ باشر طريق الاستقلالية في ما يكتب. وفيما تدّعي بعض الأصوات المهلّلة المكبّرة للحكومة بأنّها "كرّست حرّية التعبير والصحافة " في البلد ، تقف تقارير منظمات الدفاع على الصحافيين في العالم لتلقي بظلال سوداء على هذه الإدعاءات وتكشف حجم ما نال الصحافيين من عسف في تونس في السنوات الأخيرة .

على أنّ كلّ هذا لم يمنع عديدهم من أن يواصل مسيرته في الكتابة رغم ما سدّده من فواتير باهظة تبدأ بالطرد من العمل في المؤسسات الإعلامية المحلية بغرض التجويع وتنتقل إلى الحرمان من السفر والاعتداء بالعنف وتصل حتّى إلى القذف بالصحفي في تلك الحالة في غياهب المعتقلات التونسية المعروفة بظروف إقامتها "المميّزة".

يجدر التذكير أنّ أمر الاعتداءات على الصحافيين لا ينسجم البتّة مع كلّ المعاهدات الدوليّة التي وقّعت تونس ولا مع دستور البلاد الذي يقول فصله الثامن "إنّ حرية الفكر والتعبير والصحافة والنشر مضمونة". الاعتداء على الصحافيين لا ينسجم مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة الذي وقعت عليه تونس والذي تنصّ المادة 19 منه في بندها الثاني على أنّ "لكلّ إنسان الحقّ في التعبير ويشمل هذا الحق حرّيته في التماس مختلف الظروف والمعلومات وتلقّيها سواء بشكل مكتوب أو مطبوع أو في أي وسيلة أخرى يختارها".

الاعتداء على الصحافيين يتنافى في الصميم أيضا مع مقتضيات إعلان ويندهوك الصادر عن الأمم المتحدة (اليونسكو) في 1991 والخاص بالصحافة المستقلّة وقد وقّعت عليه تونس، ولا مع إعلان اليونسكو بصنعاء الخاص باستقلال وتعددية وسائل الإعلام والذي وقعت عليه أيضا.
وقبل هذا وذاك لا ينسجم مع ما نصّ عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينصّ أنّ "لكلّ شخص حق التمتّع بحرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحقّ حرية اعتناق الآراء دون مضايقة وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقّيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة ودون اعتبار للحدود".

وفي الواقع، تستدعي الاعتداءات المتكرّرة مؤخرا على الصحافيين المستقلين في تونس بقوّة إلى الأذهان ، مظاهر اعتداءات أخرى طال بعضها في تونس صحفيين أجانب ، و كان أخطرها الاعتداء على صحفي فرنسي مساء 11 نوفمبر – تشرين الأول 2005 عشيّة احتضان تونس للقمّة العالميّة لمجتمع المعلومات عندما هاجم عدد من "البلطجية" الصحفي كريستوف بولتنسكي مبعوث صحيفة "ليبيراسيون" إلى تونس في الطريق وطعنوه بواسطة آلة حادّة و انتزعوا وسائل عمله إثر نشره لتقارير عن أوضاع حرية التعبير في تونس ، وقبلها بسنوات لا تنسى الذاكرة عملية إطلاق النار على الصحفي رياض بن فضل في الطريق.

يُشار أيضا إلى أنّ تونس مازالت تحتفظ بقانون للصحافة به ما شاء الله من عقوبات السجن على الصحافيين في ما تسمّيه الحكومات الشمولية ب "جرائم النشر والصحافة" .

الحكومة ومطالب رفع القيود على الصحافة والصحافيين

ونظرا لهذا المنعطف المتردّي الذي مافتِئت تنحدر إليه أوضاع حرّية الصحافة بها، مازالت تونس للأسف تحتلّ مرتبة متأخرة في تصنيف منظمة "مراسلون بلا حدود" إذ انحدرت إلى المرتبة 143 في الترتيب العالمي. يجرّنا كلّ هذا إلى التساؤل : بماذا استفادت الحكومة التونسيّة بكلّ حرصها على هذا الصدام مع الصحافيين المستقلّين والتضييق على حرية الصحافة ؟

قد يخال البعض أنّ السلطات ضمِنت من خلال كلّ هذا الذي يصفه البعض بتهميش وإقصاء الصحافيين المستقلّين وأحيانا التنكيل بهم ، "ترهيب" صحافيين آخرين لم يكسروا بعدُ "عصا الطاعة" لها حتّى لا ينسجوا على منوالهم. ويعتقد البعض أنّ مجمل ما ينال هؤلاء الصحافيين من "سوء معاملة" هو وسيلة "تأديب لهم" بما قد يُثنيهم عن أسلوبهم في الكتابة وبالتالي يريح الحكومة.

الرئيس التونسي زين العابدين بن علي
الحكومة التونسية تقول أنها تحترم حرية الصحافة والتعبير في البلاد

​​ ولكنّ كلّ هذا غير صحيح على أرض الواقع ، فعدم منح لطفي حجّي مثلا بطاقة اعتماده مراسلا ل"الجزيرة" وكلّ الضغوطات التي مورست عليه والاعتداءات التي استهدفته في السنوات الماضية لم تجعله بأيّ حال يعجز عن مباشرة عمله بالحياديّة التي تُرضي ضميره ولكنّها ليست دائما ترضي السلطات. والحال نفسه بالنسبة لمحمد الحمروني مراسل "العرب" القطرية ولِلطفي الحيدوري مراسل وكالة "قدس برس" ولإسماعيل دباراة مراسل "إيلاف" ولأسماء أخرى من الصحافيين المستقلين مراسلي وسائل الإعلام بالخارج.

أمّا عن الاعتداءات المتكرّرة على أمثال هؤلاء ، فهي لم تُرِح الحكومة منهم بل على العكس هي جلبت لها لوم كبرى المنظمات الحقوقيّة الدوليّة وزادت من قتامة الصورة التي يحملها الرأي العام الدولي عن أوضاع حرّية الصحافة في تونس والحرّيات العامة ككل.

ولذلك الأوْلى برأينا أن تتراجع السلطات في تونس عن هذا الأسلوب المتوتّر في تعاطيها مع الإعلام المستقل ورجاله ،وأن تُتيح لحرّية التعبير وتبادل المعلومات ما هي أهل له من سماح وتشجيع. فما ضرّ لو تخلّت عن قمع هذا الإعلاميّ أو ذاك والقبول بحقيقة أنّه لا صنصرة ولا رقابة ولا تصدٍّ يمكن أن يحجب المعلومة اليوم في ظلّ كلّ هذه الثورة الاتصالية الجبارة التي تشهدها المعمورة وكلّ هذا الاتساع المتواصل لإعلام الفضاء؟

ألا يكون إطلاق حرية الصحافة ورفع اليد عن الصحافيين المستقلين لو حصل ، مدعاة للإشادة بالحكومة التونسية من قبل كلّ من يهمّه أمر حرية الصحافة وحقوق الإنسان في الدنيا ، وهي التي كانت لسنوات من أكثر الدول تعرّضا للانتقاد والتنديد بسجلّها في مجال حرّية الصحافة؟ ألا تكون هي (الحكومة) أول المستفيدين، لو أقدمت على ذلك.

سليم بوخذير
حقوق الطبع: قنطرة 2009

سليم بوخذير، كاتب وصحافي تونسي ومندوب منظمة "مراسلون بلا حدود" في تونس

قنطرة

تونس:
ماذا سيحمل العام 2010 الى الدولة البوليسية؟
ستصبح تونس في عام 2010 جزءاً من منطقة للتجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وشمال أفريقيا. لكن بهذا ستخسر تونس عددا ضخما من العمالة وربما الاستقرار السياسي أيضا. بيرنهارد شميدت يسلط الضوء على الخلفيات.

حوار مع السجين السياسي السابق في تونس المحامي محمد عبو:
لا يُمكن بناء ديمقراطيّة في تونس في ظلّ الرئاسة مدى الحياة!!
في أوّل مقابلة صحفيّة مكتوبة يُجريها بعد خروجه من السجن في أواخر يوليو/تموز 2007، تحدّث محمد عبّو عن ذكرياته في السجن وعن موقفه من تدخّل وزارة الخارجية الأمريكية والرئيس الفرنسي للإفراج عنه وعن رأيه في الدعوة للتمديد للرئيس التونسي ل5 سنوات إضافيّة في الحُكم.

بعد الانقلاب في موريتانيا:
المغرب العربي . . عاشت ديمقراطيّة العسكر!
شكلت انتخابات آذار2007 في موريتانيا نموذجا ديمقراطيا نادرا استبشرت به الشعوب المغاربية خيرا؛ لكن سرعان ما تم اغتيال هذا الحلم الديمقراطي. هذا المشهد تتويج لتعسف الحكومات التسلّطيّة التي تُكرّس"ديمقراطيّة القوّة " بدلا من "قوة الديمقراطيّة". سليم بوخذير في قراءة تحليلية للواقع "الديمقراطي" في بلدان المغرب العربي.