منصف المسلمين وكاشف الدجالين

ينظر إلى المستشرق غيرنوت روتر على أنه مثقف ملتزم سياسيًا، وكان ينتقد بشدة الإسلام السياسي وكذلك الصور النمطية الغربية الخاصة بالشرق ومزيفي حقائق العلوم الإسلامية. وفي الوقت نفسه قام بتخريج جيل جديد من الباحثين المختصين في العلوم الإسلامية الذين يعملون أيضًا وبنشاط في مجالات إعلامية. كريستيان ماير في رثاء الراحل جيرونت روتر.

ينظر إلى المستشرق غيرنوت روتر على أنه مثقف ملتزم سياسيًا، وكان ينتقد بشدة الإسلام السياسي وكذلك الصور النمطية الغربية الخاصة بالشرق ومزيفي حقائق العلوم الإسلامية. وفي الوقت نفسه قام بتخريج جيل جديد من الباحثين المختصين في العلوم الإسلامية الذين يعملون أيضًا وبنشاط في مجالات إعلامية. كريستيان ماير في رثاء الراحل جيرونت روتر، الذي يعد أحد كبار المستشرقين المتخصصين في العلوم الإسلامية في ألمانيا.

الصورة دار نشر بالميرا
ترجم روتر ضمن مشروع "مكتبة الأعمال الكلاسيكية العربية" الذي قام هو بتأسيسه، العديد من أمَّهات الكتب الأدبية العربية إلى اللغة الألمانية

​​يدَّعي الكثيرون أنَّهم فتحوا أبواب الاستشراق الألماني الذي غدا لفترة طويلة غير عصري للموضوعات المعاصرة وأنَّهم منحوه أهميَّته السياسية. ولكن يبدو أنَّ القليلين فقط تركوا في هذا المجال آثارًا خالدة مثل غيرنوت روتر - الذي بقي مع ذلك وبطريقة مميَّزة مستشرقًا ينتمي إلى المدرسة القديمة. ومثلما أصبح معروفًا الآن، فقد توفي هذا الباحث والكاتب المختص في العلوم الإسلامية في التاسع من شهر حزيران/يونيو الجاري، عن عمر لم يتجاوز التاسعة والستين عامًا.

وروتر الذي ولد في عام 1941 في مدينة أوبافا المعروفة باللغة الألمانية باسم تروباو والتي تقع في منطقة سيليزيا، عاش أيَّام طفولته الأولى في فترة الحرب، وبسبب الحرب أيضًا أصبح يمارس النقد. وبعد دراسته الاستشراق الكلاسيكي في كلِّ من مدينة بون وكولونيا وتوبنغن، أصبح روتر في عام 1980 مديرًا للمعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت - في أوج الحرب الأهلية اللبنانية، التي شهد بنفسه أسوأ مراحلها إبَّان اجتياح جنود الجيش الإسرائيلي بيروت ومجازر صبرا وشاتيلا.

وفيما بعد كان روتر يروي قصصًا من هذه الفترة وغالبًا بطريقة ظريفة - مثل قصة عثوره في الليل وهو في سيارته على مراسل "مجلة دير شبيغل" الألمانية في شارع مظلم أو قصة سقوط قنبلة ذات مرة على بيته وكيف "دمَّرت كلَّ أثاث غرفة الجلوس". ولكن هذه الأعوام أثَّرت فيه تأثيرًا عميقًا.

القنابل البيروتية والسياسة السلمية الألمانية

الصورة أ.ب ضحايا الحرب في لبنان   1982
شكلت تجربة روتر في بيروت نقطة تحول في حياته السياسية والأدبية

​​

وكذلك اتَّخذ روتر - مثلما روى ذات مرة في أثناء حديث معه - قرار العمل في السياسة في ليلة سقط فيها وابل من القنابل وهو في بيروت: "كنت جالسًا مع زوجتي في القبو، ودوت الانفجارات وفرقعة القنابل وصليلها. وعندها قلنا لأنفسنا: إذا قدِّر لنا أن نخرج من هنا بسلام، فيجب على أحدنا أن يعمل بشكل فعَّال جدًا في السياسة". وبعد عودته إلى ألمانيا، انضم هذا الباحث إلى حركة السلام وتولى في عام 1984 منصب أستاذ الدراسات الشرقية المعاصرة، والتي تم إنشاوها حديثًا في مدينة هامبورغ.

وكذلك شغل طيلة دورة تشريعية في الفترة من عام 1987 وحتى عام 1991، منصب نائب برلماني عن حزب الخضر في ولاية راينلاند-بفالتس، حيث أثار ذات مرة فضيحة صغيرة، وذلك عندما ظهر في برلمان الولاية وهو يرتدي زي مهرِّج من أجل إلقاء "خطاب كرنفال". غير أنَّه كان على العموم يقف أكثر إلى جانب المسلمين. كما أنَّه ترجم ضمن مشروع "مكتبة الأعمال الكلاسيكية العربية" الذي قام هو بتأسيسه، العديد من أمَّهات الكتب الأدبية العربية إلى اللغة الألمانية، وكان هدفه الواضح من ذلك يكمن في جعل الأدب العربي متاحًا لجمهور واسع.

كاشف السرقات والدجالين

​​ولم يكن روتر ينزعج من اتِّهام بعض الزملاء له بالبعد عن الفكر النظري، وعلى أي حال لقد كانت مثل هذه الانتقادات تخطئ هدفها، إذ إنَّه المتذمِّر، الذي كان حتى أعوام قليلة معتادًا على التدخين، كان يعتبر نفسه مثقفًا ملتزمًا سياسيًا، وكان ينتقد بشدة الإسلام السياسي وكذلك الصور النمطية الغربية الخاصة بالشرق. وعلاوة على ذلك هاجم مرارًا وتكرارًا صموئيل هنتنغتون، الذي كان ينظر إلى نظريته الخاصة بصراع الحضارات على أنَّها "نبوءة تحقِّق ذاتها" وخطيرة.

كما أنَّ الخدمات التي قدَّمها روتر للصحافة الألمانية في الشرق الأوسط لا تقدر بثمن. وليس فقط لأنَّه فضح في كتابه الذي يحمل عنوان "انتحالات باسم الله" التي كشف فيها حقيقة الخبير المزيَّف في الشؤون الإسلامية، غيرهارد كونتسلمان وكشف دجله وأكاذيبه. كما كان من أوَّل الذين وصلوا إلى نتيجة منطقية مفادها أنَّه يجب على المستشرقين بالذات العمل بصورة أقوى في وسائل الإعلام. ومثل هذا العمل كان يبدو له أمرا بديهيا.

وفي هذا الصدد قال روتر: "أعتقد أنَّه من واجب الباحث أن يعيد للناس شيئًا من المعرفة التي اكتسبها بتمويل من أموال دافعي الضرائب". والآن يعمل العديد من طلبة روتر لصالح وسائل الإعلام الألمانية، وكذلك صدرت أيضًا مجلة زينيت "zenith" المتخصصة في الشرق من الأجواء ذات الميول الإعلامية في معهده.

رجل المفاجآت

وغيرنوت روتر كان دائمًا يجيد صنع المفاجآت. وعندما طلبنا منه ذات مرة أن يكتب مقالة لمجلة زينيت، أرسل لنا مقالة حول حبّ العرب للثوم. فقد كان منذ زمن بعيد يتحرَّك بعيدًا عن الأساليب البالية؛ وأطروحته التي نال عنها درجة الدكتوراة في عام 1967 كانت تحمل عنوان "وضع الزنوج في المجتمع العربي الإسلامي"، وفيما بعد درس تاريخ جزر القمر.

وفي الأعوام الأخيرة تحوَّل هذا المستشرق بسبب اهتمامات عائلية إلى دراسة التاريخ المحلي لمنطقة مورافيا سيليزيا وكتب - من دون شكّ بكلِّ سرور - مقالات صحفية حول مدينة هوتسنبلوتس. وعندما كان يتم سؤاله عن السبب الذي دفعه إلى عمله هذا، كان روتر يجيب بلهجة جادة للغاية قائلاً "السلام والتنوير".

وتشاهد في غرفة الاستقبال في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت مجموعة من الصور بالأبيض والأسود معلقة على الحائط لكبار المستشرقين الألمان. والآن سوف يجد أيضًا غيرنوت روتر مكانه بينهم - في وسط المدرِّسين والزملاء وفي قلب مدينة بيروت المنهكة، التي عاش أصعب ساعاتها.

كريستيان ماير
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010

كريستيان ماير باحث مختص في الدراسات الإسلامية وناشر مشارك لمجلة زينيت "zenith" المتخصصة في الشرق.

قنطرة

منظومة العلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي:
ثنائية الاستغراب والاستشراق....جدلية الأولويات
يرى الفقيه الهندي، مولانا واريس مزهري، في مقالته الآتية أنه إذا كانت هناك رغبة في تحسين العلاقات بين الغرب والمسلمين فلا بد من أن يتعامل المسلمون بطريقة منهجية مع التجربة الغربية والاستفادة منها وكذلك العمل على تأسيس معاهد ومراكز بحثية مشرقية تتخصص في دراسة الغرب بكل نزاهة وعلمية بعيدا عن الأفكار النمطية.

الشرق في عيون الغربيين: أكذوبة لا غير؟
أعمال مستشرقين ورسامين وتلقيهم اليوم
جمال أم رؤية مشوهة؟ كتابان يعالجان تاريخ تلقي الشرق. في حين يستطلع الأمريكي كريستيان دافيس رسامي الشرق في الغرب في القرن التاسع عشر، والجدال حول الاستشراق، يسعى المصري محمد عمارة من خلال تناول اقتباسات علامة غربيين عن الإسلام، إلى إثبات أن الإسلام هو أرقى درجات الأديان التوحيدية. تقرير فولفغانغ شفانيتس

العالم العربي: العولمة وجدل الهوية
من الخصوصية إلى الإعاقة التاريخية؟
يرى الإعلامي والباحث في العلوم السياسية خالد الحروب أن تشدد الخطاب العربي والإسلامي الراهن في مسألة الخصوصية الثقافية يبتعد عن واقع مجتمعاته وعن التجربة التاريخية. كما يرى أن هذه الهواجس الوهمية تحول الخصوصية الثقافية إلى صيغة تبرير لإخفاقات المجتمعات العربية وتضر بفرص تطورها ولحاقها بركب الحضارة.