"مصطلح الدين يتغير على مدى الزمان"

هل استطاعت العولمة بما حملته وتحمله من أطياف متعددة للعلمانية الجافة المسطحة أن تزيح الدين من الصدور والقلوب قبل أن تحاول إزاحته عن المسارات الفكرية والثقافوية للإنسانية في القرن العشرين وأوائل الحادي والعشرين؟

Von إميل أمين

يخبرنا فيليب بورجو؛ أستاذ تاريخ الأديان في جامعة جنيف بأن مسألة الهوية الدينية وصلاتها بالعلمانية هي مسألة غاية في الأهمية في الوقت الراهن في أوروبا، وليس في الشرق الأدنى، أو الشرق الأقصى فحسب. وهذا ما بدا جلياً من خلال المعركة الجدلية التي عرضتها الصحافة اليومية الأوروبية منذ سنوات عدة غداة الإعداد لدستور الاتحاد الأوروبي.

وفي هذا الإطار يتساءل بورجو: ما معنى الرغبة في إدخال كلمة «دين» في المقدمة الخاصة بالدستور الأوروبي أو العكس، أي الحرص على عدم التنويه من قريب أو بعيد عن ذلك؟ وكلنا يعلم أن الدين أو الديني يؤدي إلى تأثيرات قوية. الإجابات نجدها طي هذا الكتاب المهم الصادر حديثاً عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، من ترجمة فوزية العشماوي، أستاذ اللغة العربية والحضارة الإسلامية في جامعة جنيف. تساؤلات المؤلف مثيرة للتفكير ومحفزة للبحث عن تلك التأثيرات، وهل هي مقصورة على الكنائس المعتمدة، ومؤسسات تقليدية رسمية؟ ألا يوجد مكان لتكوينات جديدة تسبب القلق أحياناً؟ إن تعدد الحركات الدينية وتسييس الأديان الحالي، إلى جانب عودة التدين المعلن في عالم المنظمات الدولية وأباطرة الحروب، يدعونا إلى إعادة التفكير في بعض المصطلحات. وفي البداية، من أين تأتي معلوماتنا عن «الدين» وماذا تشتمل عليه؟

هنا ربما يكون من الأهمية بمكان العودة إلى الماضي وإلى البلدان البعيدة، حيث ظهرت التعريفات الأولى التي تعد أساس هذه المعتقدات الراسخة، وأن ما يفرض نفسه علينا، ويجب ألا نندهش لذلك، هو صفة الجمع أو التعددية الجدلية لموضوع «الدين»، وموضوع الدين غير موجود بصفة أبدية ولكنه دائماً في حالة بناء، وإعادة بناء، وأي دراسة جادة للدين لا يمكن أن تكون إلا من خلال التاريخ.

[embed:render:embedded:node:17046]

متى ظهر علم تاريخ الأديان؟ يؤكد المؤلف أن هذا العلم الذي ظهر بوصفه تخصصاً أكاديمياً مستقلاً وعلماً غير طائفي ولا ديني في الملتقى بين علم دراسة النصوص المقارنة وعلم الأنثروبولوجيا، تشكَّل في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وظهر أولاً في فرنسا، ثم إنكلترا، فسويسرا وهولندا وبلجيكا. لقد ازدهر هذا التخصص بسبب صعود العلمانية، ولكن تاريخ الأديان الذي وصفه ماكس فيبر بأنه سيكون «فك سحر العالم»، سيظل موصوماً بتناقض مصادره على رغم أنه نشأ في ظل حركة أوروبية. وهذه الحركة تقود جزءاً من العالم المسيحي، وليس كل كوكب الأرض. وليس من الضروري توضيح ذلك، ويمكن أن يبدو تاريخ الأديان نتيجة لرد الفعل على «فك سحر العالم» هذا، وذلك بتمييز الشعور الديني والخيال الديني موضوعاً للدراسة، أو على العكس بوصفه تواصلاً طبيعياً واضحاً، ما دام تاريخ الأديان ينتج من وضع مسافة أو عن الابتعاد عن الدين.

هل كان أمام علم تاريخ الأديان حواجز من نوع ما؟ هذا ما يؤكده بورجو، وعنده أنه لا يخفى على أحد أن تاريخ الأديان كان ولا يزال أمامه حاجزان كبيران تقليديان وشديدا المقاومة في الوقت الذي يدور الحديث في كل أوروبا عن الدور الذي يجب أن يضطلع به «علم تاريخ الأديان» في التعليم المدرسي العام. وهذان الحاجزان هما من ناحية: التوجس من وجهة نظر المؤمنين، أو ربما الكراهية التي من الممكن أن يحدثها أسلوب البحث غير المتدين، أي: الأسلوب التاريخي النقدي، ومن ناحية أخرى، الشك الكبير الذي يمكن أن ينزرع - على العكس – في قلوب أتباع العلمانية المتصلبة من إمكانية اتباع أسلوب دراسي لموضوع الدين.

أن بعضهم يعتقد أن تاريخ الأديان مهمته هي إبعاد الدين، على حين يعتقد الآخرون أن مهمته هي إدخال الدين من الباب الخلفي، وتكمن الخطورة في أن كل إنسان يود في أعماق نفسه، سواء أكان سلبياً أم إيجابياً، معرفة ما المقصود بهذا التخصص: الدين، أو الأديان.

يستدعي اسم الكتاب الوقوف على المعنى والمبنى لكلمات «تاريخ»، و «الأديان»... ماذا عنهما؟

سطور الكتاب تحدثنا عن أنه في ما يخص كلمة تاريخ، يكفي القول إن الكلمة هنا مستخدمة في معناها العام الشامل، أي إجراء تحقيق أو استقصاء. ويجب عدم جعل تاريخ الأديان مجرد عرض تطور ما نعرفه عن الأديان على مدى الزمان والمكان، أو بالأحرى، فإن مثل هذا العرض يجب ألا يكون سوى أحد جوانب هذا التخصص، وربما يكون جانباً ثانوياً من هذا التخصص. إن المهمة الأساسية لتاريخ الأديان هي تحليل الوقائع التاريخية وبالطبع تلك الوقائع الموجودة داخل التاريخ، والتي من الضروري أن تكون مرتبطة به، على أن تكون مكرسة لأهداف أخرى غير متعلقة بالمشهد الخاص بتسلسل النسب. هل يلعب الزمن دوراً في إشكالية تعريف «تاريخ الأديان»؟

يرى المؤلف أن الديانات الأخرى التي عادة ما نطلق عليها الديانات الطبيعية للتمييز بينها وبين الأديان السماوية المنزلة أو المفروضة غالبيتها في سبيلها للانقراض، فيما عدا بالطبع بعض الحركات الدينية التي تظهر فجأة وهي مصطنعة، مثل الحركات الدينية الكورية والأسترالية أو الأميركية، والتي تنتمي إلى العصر الجديد أو الفيمنيزم، أو الوثنية أو الشامانية في آسيا الوسطى، أو الإحيائية أو الشعوذة. إن المادة الأساسية لتاريخ الأديان، ليست مجرد تسلسل الأديان الكبيرة والصغيرة في العالم، ولكن العناصر القديمة والأنظمة التي غالباً ما تكون عتيقة، ولكنها شديدة المقاومة، والتي ارتكزت عليها العقائد الحالية عند تكوينها.

[embed:render:embedded:node:18717]

هل التربة التي نمت فيها بدايات تاريخ الأديان هي بالفعل الخلفية البعيدة لجميع مشكلاتنا المعاصرة؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن بورجو يذهب إلى أن هذه التربة ليست مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمبادرات الأساسية الخاصة بالجهل بمعرفة الآخر، والتي نطلق عليها حالياً «حوار الأديان»، وهذا الحوار في الغالب مختص بالأديان الإبراهيمية، إلى جانب إدخال بعض الديانات «الكبيرة» وإضافتها. ربما يحذرنا بورجو من عملية إقصاء ما، يرى بالفعل أن لها سلبياتها الواضحة. عن أي مجال إقصائي يتحدث الكاتب؟

يتصل الإقصاء هنا بالحضارات الوثنية القديمة من استقصائنا وتحقيقنا بحجة أن هذا مجال فيه كثير من الغبار، أو أن نبعد الشعوب الفقيرة أو المهمشة التي يهتم بدراستها علماء أصول السلالات البشرية. كل ذلك معناه إقصاء منابع كثير من القضايا المعاصرة، والأخطر من ذلك أننا نحرم أنفسنا من فهم كيف أن تاريخ الأديان يختص بمعرفة الآخر الذي يمكن أن نكونه، أو الآخر الذي عرفناه بالفعل من زمن ليس ببعيد. وربما ما سنعرفه يوماً إذا أردنا أن نأخذ في الاعتبار ما هي منابع إلهام الحركات الدينية الجديدة وحركات التطرف حيثما وجدت.

إن إقصاء هذا العالم الآخر الأصولي وتفضيل الأديان التوحيدية، وما يطلق عليه الأديان الكبرى على التعددية والثروات اللامحدودة للمجالات المتعددة للثقافة والمجالات عبر التاريخ، كل ذلك سيكون بمثابة تجهيز ما يشبه العلم ويكون حكراً على الديبلوماسيين، أو «ممثلي» التقاليد الدينية المسيطرة، الذين يرغبون في إرساء حوار في ما بينهم، أو على العكس خلق تسلسل تدريجي داخل ما له قيمة من الناحية الاقتصادية والمؤسساتية والاستراتيجية والإحصائية، وأن نوع الأسئلة التي يثيرها تاريخ الأديان يجب أن يظل على نقيض مثل هذا الاستخدام، سواء أكان سياسياً أو ساذجاً فقط. هل من نصيحة يقدمها فيليب بورجو إلى النخبة الفكرية الباحثة في سياق تاريخ الأديان وعلاقاتها وتشابكاتها وحتى صراعاتها الفكرية والمادية؟

ينصح بأن علينا أن نبذل بعض الجهود حتى نتخلص من عاداتنا في التفكير في ما يتعلق بالدين والسياسة إذا أردنا دراسة «تاريخ الأديان»، وليس تصنيع علم لاهوتي للأديان (بتوجيه مسيحي) من دون أن ندرك ذلك. وهذا هو التوجه الفكري لهذا البحث الذي يهدف إلى التقديم لهذه المبادرات الأساسية التي كانت أصل تاريخ الأديان.

إن الرجوع إلى العوالم القديمة جداً يفرض نفسه علينا لإلقاء الضوء على ما يشكل الجدال الساخن الحالي، وهذا يبدو أكثر قرباً من الحقيقة، لأن «سوبر ماركت ما بعد الحداثة»، يلتحم بصورة مدهشة مع العالم المتعدد والناعم للمعتقدات والممارسات التي ترجع إلى ما قبل الاختراع المسيحي الأوروبي الذي نطلق عليه عادة بطريقة تلقائية تبدو كأنها طبيعية «الأديان». تعدد المذاهب الدينية، إعلان الحرب المقدسة، جدال حول الحجاب، علمانية الدولة وتدريس الدين في المدارس. هناك مناسبات عدة تجعلنا نتساءل عن العودة المحتملة لكل ما هو ديني. يقترح علينا فيليب بورجو أن نتجاوز الإشكاليات التي يثيرها هذا الجدال وأن نخصص الوقت الكافي لنتأمل ونحلل مصطلح «الدين». ومن خلال استعراض تاريخ «الدين» في الغرب، يخلص المؤلف إلى أن هذا المصطلح يتغير على مدى الزمان وأننا لا نتوقف عن بناء وإعادة بناء ما نطلق عليه مصطلح «دين».

 

إميل أمين

حقوق النشر: الحياة  2016