ابن تيمية والشاطبي والخطاب الديني المقبل

Von مسفر بن علي القحطاني

الخطاب الديني الراهن يمر بتحولات كبيرة في الشكل والموضوع، وعلى رغم ذلك هو الخطاب الأكثر عمقاً وتأثيراً في المجتمعات الإسلامية، ولا يزال صانعاً للأحداث وموجّهاً للعقول والعواطف نحو قضايا الإصلاح التي تطالب بها تلك المجتمعات، والصحوة الإسلامية في الفترة الماضية كانت تعتبر رائدة الخطاب الديني وصاحبة التأثير الأعلى في المستوى الشعبي والرسمي، وبغض النظر عن تقويم الدور الذي لعبته الصحوة في مجالات الإصلاح المجتمعي، إلا أن ما يهمنا في هذا السياق؛ هو الحديث حول أي النماذج العلمية والفقهية حاولت الصحوة خلال العقود الماضية أن تجعله مرجعيةً لها، وتعتبره أنموذجاً لخططها الإصلاحية، ويكاد يجزم المتابع أن شخصية ومنهجية شيخ الإسلام ابن تيمية الذي عاش الفترة (661- 728ه) هي الطاغية على المشهد الصحوي والخطاب الإسلامي في المرحلة الماضية، وهنا أطرح سؤالاً مباشراً أحاول في هذا المقال الإجابة عنه، وهو: هل لا يزال ابن تيمية هو أنموذج المرحلة الراهنة والمستقبلية؛ أم أن تلك المرحلة يناسبها أنموذج الإمام الشاطبي؛ أبو أسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الذي عاش خلال الفترة (720-790ه)؟ . قبل الإجابة عن ذلك، هناك مقدمات أرى أنها مهمة لفهم أطروحة المقال، وهي كالآتي:

المقدمة الأولى: إن المقارنة بين ابن تيمية والشاطبي لا تعني اختيار أحدهما إلغاء دور الآخر، وفق عقلية الاختيارات الحادة؛ إما مع أو ضد، كما أن هناك من سيعترض على هذه المقابلة، حيث التشابه ملحوظ بينهما، من حيث العصر الذي عاشا فيه تقريباً، وكذلك الموضوعات التي اشتغلا عليها في حياتهما، ومع هذا التشابه؛ فهناك فروق جوهرية بينهما في أنماط العمل وطريقة الاجتهاد والتعامل مع الأحداث.

المقدمة الثانية: هل الأَولى في خطاب المرحلة الراهنة والمقبلة؛ انموذج ابن تيمية أم الشاطبي؟ هذا السؤال أعيده مرة أخرى، للتأكيد بأن المقصود في المقارنة هو في سياق اختيار نوع الخطاب الديني، وفق التعامل الذي وقع أو المتوقع من علماء ودعاة وقيادات المجتمعات الإسلامية، وليس وفق كامل تراثهما الفقهي المعروف للقاصي والداني، وعرض هاتين الشخصيتين وفق هذا السؤال؛ جاء لأجل إظهار أي المناهج الإصلاحية أولى في العمل، وماهي أوجه النقد التي وقع فيها الخطاب الديني والاصلاحي الماضي، وما الذي يجب فعله تلافياً لأخطاء الماضي وسعياً في رؤيةٍ افضل للمقبل؟.

المقدمة الثالثة: إن شهرة هذين الإمامين بلغت الآفاق، ومحاولة قراءة واقعنا ومستقبلنا من خلال النماذج العلمية الفذة، يفتح أمامنا أبواباً من التجديد قد تساهم في إكمال ما سبق من مشروعاتهم العلمية، أو نقدها ثم محاولة البناء من جديد وفق طريقتهما لإيجاد خطاب أكثر ملائمة لاحتياجاتنا المعاصرة والمستقبلية، فمع أهمية التجارب السابقة إلا أن الارتهان لاجتهاداتهم الفرعية حبسنا في عصرهم، ومنعنا من وضوح رؤية متطلبات عصرنا، وللأسف أقولها بكل وضوح أن بعض اجتهادات ابن تيمية لا تزال تهيمن وتصنع قوالب حديدية يندر أن يتجاوزها أحد إلا وربما يُرمى بالجنوح عن الدين، أو الخروج عن منهج السلف، وليس هذا العيب في ابن تيمية وحاشاه، ولكن اختيار بعض الإسلاميين صوراً من اجتهاداته وتوظيفها في معارك ومواجهات فئوية معاصرة، هو ما أدخل النقد على هذا الانتقاء التوظيفي.

وبعد هذه المقدمات، أرى أن عصرنا الراهن وامقبل يحتاج إلى الإمام الشاطبي واجتهاداته خصوصاً المقاصدية منها، والتي عمل عليها وفق منهجية نادرة؛ ليُصيغ لنا مقاصد شرعية، هي منهج متكامل للكثير من الرؤى الفكرية والفقهية والاصلاحية بشكل عام، وأعود لكي أؤكد أن اختيار الشاطبي لا يعني اطِّراح ابن تيمية والغزالي والجويني وابن حزم وابن رشد والعز بن عبدالسلام وغيرهم، بل محاولة لتسليط الضوء أكثر على هذا النوع من المنهج ومدى احتياجنا له، ولعلي أذكر أسباب هذا الاختيار وفق ما يلي:

أولاً: أن الإمام الشاطبي أسس لعلمٍ مهم اعتَبَره ضمن كليات الدين العليا؛ وهو علم مقاصد الشريعة، وأن اعتباره يقوم على الأحكام العقلية والعادية والسمعية (أي نصوص الوحي)، كذلك حاول أن ينظر إلى مجموع الأدلة من دون الانكباب على جزئيات النصوص، وإغفال سياقاتها الكلية التي تمثل تصرفات الشريعة الغائية، ومن ثمَّ أعاد اعتبار قيام الشريعة على المصالح التي تنفع الناس في دنياهم وأخراهم، فقال:» أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً»(الموافقات 2/9، تحقيق مشهور)، هذه النظرة الكلية للدين من خلال معقولية معناه ومصلحية مبتغاه، لا تجعل المسلم بعيداً عن واقعه متخلفاً في التفاعل مع دوره الاستخلافي، فمن وجهة نظري أن طريقة الشاطبي في التناول تُذكِّر بالأهداف من وجودنا، ولا تغمرنا في أطر ضيقة من المعاش اليومي، مثلما تفعله معنا الأحداث السياسية اليومية والأزمات الاقتصادية، أو تأسرنا الخلافات الفقهية والحزبية؛ عن الالتفاف للأهم من الغايات والكليات المصلحية، لذلك نحتاج مع الشاطبي أن نرفع رؤوسنا نحو الأفق الواسع والنظر البعيد، ونتجاوز الحفر التي أعاقتنا دهوراً والخنادق التي قسّمتنا شيعاً ومذاهب.

ثانياً: اشترط الإمام الشاطبي في المجتهد الناظر في الأحكام وصفين ضروريين، فقال:»إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها» (المرجع السابق 5/42)، وهذا الاشتراط تفرد به الإمام الشاطبي لتأكيد الحاجة لفهم المقاصد عند الاجتهاد، ولو رجعنا للوراء قليلاً لوجدنا بحجة خصوصية المجتمع، أو حماية الفضيلة المتوهمة، أو سد الذريعة على خصوم متخيلين كالعلمانيين أو قوميين أو غيرهم، خرجت عدد من الاجتهادات والفتاوى؛ بناءً على ما سبق من أسس استنباطية لا أصل لبعضها أو مبالغاً في اعتبارها، ومن ثمَّ رأينا من حرّم المباح ومنع مصالح معتبرة وفق تلك الحجج، منها على سبيل المثال: جعْل الأصل في الفنون والترفيه الحرمة لا الإباحة، أو منع سائر الحريات في التعبير وإبداء الرأي والمشاركات السياسية بلا قيد معتبر، أو تحريم كل مشاركات المرأة خوفاً واحتياطاً وفقاً لنظر خاص لا لموازنات الشرع ومآلاته، وكل تلك الأبواب المغلقة لم يكن من سبيل في التعامل معها إلا الكسر، ثم إساءة الحكم للدين ولعلماء الشرع بالتقصير في البيان والحكمة، ولو أخذوا بشروط الإمام الشاطبي في من يتولى الاجتهاد؛ لربما كان هناك الكثير من الموازنات المصلحية والتعامل الرشيد بين ما يحتاجه المجتمع من مصالح وما يحذر منه من مخالفات، وهذا ما يقوّي رجحان منهج الشاطبي أكثر من غيره في قيادة خطاب المرحلة الراهنة والمستقبلية.

ثالثاً: فقه الأولويات والموازنات بات من أهم حاجاتنا المعاصرة، والخطاب الديني المعاصر أمامه تحديات مختلطة من خير وشر، فالعزلة عن العالم لم تعد خياراً لصاحبها، والتعاطي مع المنتجات الغربية فكراً وسلوكاً وصناعة وهويات أصبح واقعاً معاشياً لا فرار منه لا للفرد ولا للدولة، والفقه التقليدي والمنهجيات السابقة كانت تميل للمواجهة مع الآخر، ثم إذا فشلت حاولت الانكفاء واعتزال العالم، ومن زاوية أخرى أشير إلى خطاب الوعظ الذي كان ينزع نحو المثالية المفرطة، من خلال الاقتداء بنماذج من السلف كابن المبارك والفضيل بن عياض والجنيد، مما يصيب المسلم المعاصر بصعوبة الالتزام بالدين وفق هذه النماذج النادرة حتى في زمانها؛ ما يجعله بين خيارين: إما التمرد وإما النفاق، ولو اعتبرنا فقه الإمام الشاطبي في ضبط معايير الترجيح بين المصالح والمفاسد، وقواعده الأصولية في ضبط مراتب المصالح، لأصبحنا على وعي أعمق بالدين والواقع؛ والواجب فيهما وفق فقه المرحلة، ولا ننسى أن الإمام الشاطبي عقد في كتابه الموافقات أكثر من فصل لبيان منهج الشريعة وواقعيتها في الافهام والامتثال عند حديثه عن قصد الشريعة من التكليف بعيداً عن المشقة والأعنات، ورسم طريق الاعتدال بين الحظوظ الطبيعية والأهواء المضلِّة، مع اعتبار جريان التكليف على استقرار عوائد البشر؛ وليس مبنياً على الخوارق والغرائب التي لم تحصل لأحد إلا على وجه الندرة أو فعل القلة من الناس. (انظر تفصيل تلك المعاني في الموافقات 2/ 170-490 تحقيق مشهور).

رابعاً: نحتاج لخطاب الإمام الشاطبي في عصرنا لأنه الأقرب إلى فقه الاجتماع منه إلى تعميق الخلاف، وقدرته في إيجاد مساحة خضراء للتعاون بين المسلمين على اختلاف طوائفهم، فعلم المقاصد الذي قدّمه هدية للمسلمين؛ على رغم اكتشافنا المتأخر له، يهدف لتقريب وجهات النظر من خلال توضيح الأهداف العامة للدين، وجمع المسلمين على مقاصد غائية ومنارات كلية، ولذلك سماه الموافقات، لأنه إلى معاني الوفاق والتوفيق أقرب، وقد ساق في مقدمة كتابه قصة اختيار هذا العنوان، من خلال رؤيا رأها أحد مشايخه في منامه ظهر فيها الشاطبي حاملاً كتابه ومسمياً إياه بالموافقات لأنه وفّق بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة. (انظر: المرجع السابق 1/10-11)، والناظر المتأمل في هذا المشروع التجديدي يعلم يقيناً قدرة المقاصد على احتواء المذاهب وإعادة الاعتبار للجوامع الموحدة بين المسلمين.

خامساً: اتصف الخطاب الديني في المرحلة الماضية أنه يخاطب المسلمين في غالب موضوعاته ووفق أنماط تقليدية تناسب بيئة المسلمين وطريقة تفكيرهم، ولا يملك خطاباً عالمياً للإنسانية جمعاء، وظن بعض المتحمسين ان الحاجة لخطاب عالمي يكفي فيه أن تُبدَّل (المايكرفونات) لتكون أسمع للخارج، أو من خلال معرفة اللغات الأجنبية فحسب، بينما الحاجة الحقيقية تتطلب وعياً بخارطة التفكير والتأثير، الذي تهيمن عليه النمطية الغربية، كما يظهر الاحتياج الأهم لقيادات علمية تكشف حقائق الدين بالبراهين الصحيحة والدراسات الواقعية المتينة، فدفاع خطابنا الديني عن الانتهاكات التي تقع على مقدسات المسلمين-على سبيل المثال- أو ما يصيب شعوبنا من أذى؛ غالباً ما يأتي من خلال الدعوة للجهاد والدعاء الغاضب على الغرب والشرق، ونشر خطاب الانتقام والكراهية لأولئك المخالفين، وهذا الفعل العاطفي لن يعيد للمسلمين حقوقهم؛ بل قد يصورهم الإعلام المؤدلج بالمتوحشين الجهّال في ردود أفعالهم، ويخسرون وقوف شعوب العالم المسالمة معهم، بينما المعالجة المثلى تكمن من خلال طَرق الأبواب الرسمية الأممية، وفتح القنوات مع جماعات الضغط الحقوقية، ونشر خطابٍ عقلاني رشيد بأدوات معاصرة تحرج المتورطين في هذه الانتهاكات، وهذا الخطاب هو الممكن في ظل ضعف المؤسسات الرسمية عن قيامها بأدوار أكثر تأثيراً في واقع المسلمين، والمتأمل في مقاصد الشريعة وفقه المآلات الذي أسس بناءه الإمام الشاطبي يدرك أهمية تطوير هذا النوع من الخطاب الرشيد، وقدرته في رسم طرائق التأثير في الإقناع وفق موازين المصالح ومعايير البرهان العقلي.

وختاماً، يظهر لي مما سبق أن فقه ونظر الإمام الشاطبي في مرحلتنا الراهنة والمقبلة هو الأهم والأولى؛ لأنه يؤسس لفعل واعي وخطاب يراعي مقاصد الدين واحتياج المسلمين، فالفخاخ كثيرة، وإبعاد المسلمين وتقزيمهم شعورياً ومادياً باتت سياسة الدول الكبرى، والمهمة اليوم ليست في بعث المجددين من قبورهم؛ بقدر ما نحتاج للفقه والحكمة في حسن توظيف تراثهم بما يناسب حالنا المعاصر، والاحتماء الحاصل من بعض دعاة ومفكري الأمة بابن تيمية أو ابن حزم أو ابن رشد أو بالغزالي لتصفية خصوماتهم والتراشق بمقولاتهم؛ لا شك عندي في أنه انصراف عن الكلي الذي جاءت به النصوص، واشغالٌ للساحة الفكرية بنجاسة دم البعوضة بينما قداسة الدين والهوية في تناقض وتناقص صامت!.