القوة الناعمة: عن تحولات الإنتاج الإعلامي في السعودية

يدرك المشتغلون في الإعلام الجديد خطورة الحديث في الشأن العام، وعدم قدرتهم على توجيه انتقادات للحكومة. يروي مقال أحمد مصطفى كيفية ضبط السلطات السعودية لشركات الإنتاج الشبابية وتوظيفها لصناعة وصيانة صورة المملكة.

حقق فيلم مسامير[1] من إنتاج استوديو ميركوت نجاحًا كبيرًا، بعد انطلاقه في 11 كانون الثاني 2020 في عدد من دور السينما في العالم العربي. تبع ذلك، إعلانٌ عن شراء منصة نتفلكس ستة[2] أفلام قصيرة بعنوان «ستة شبابيك في الصحراء» من إنتاج تلفاز 11.[3] في الوقت نفسه  تنتشر إنتاجات شركة ثمانية[4] مواد مرئية وصوتية ومكتوبة في أنحاء الوطن العربي. يمكن اعتبار هذه الشركات الثلاث (ميركوت وتلفاز 11 وثمانية) أهم ثلاث شركات إنتاج إعلامي جديدة، بالإضافة إلى شركة يوتيرن الترفيهية[5]، إذ تمثل شكلًا جديدًا من الإنتاج الإعلامي الترفيهي الثقافي في المملكة العربية السعودية.

يحاول هذا المقال وضع هذا التغير في الإنتاج الثقافي في سياق تحولات في الخطاب الحكومي، تسعى من خلاله المملكة إلى تقديم شكلٍ مختلفٍ لصورتها، عبر امتلاكها أدوات قوة ناعمة مؤثرة جديدة. وذلك بتوظيف هذه الشركات الشبابية الناشئة واستخدام منابرها ومدى وصولها الشاسع. وفي السعي لتوضيح هذا التغير سأحاول بداية تعريف ومناقشة مفهوم القوة الناعمة، وتتبع تاريخ استخدامات المملكة لأدواته، ومن ثم تتبع بعض مظاهر هذا الاستخدام وتجلياته في إنتاجات هذه الشركات الناشئة الجديدة.

مدخل عن مفهوم القوة الناعمة

عرّف أستاذ العلوم السياسة جوزيف ناي[6] مفهوم القوة الناعمة بالقدرة على تحصيل ما تريده من الآخرين عن طريق الإقناع والترغيب. تُصنَع القوة الناعمة من خلال خلق صورة ساحرة وجذابة مبنية على حُسن النوايا في أوساط المجتمع الدولي. إن القوة الناعمة تتحقق بتحول ثقافة صانعها إلى غايةٍ مبتغاة، بما يُسهّل عليه تحقيق أهدافه وخدمة مصالحه. في مقابل ذلك، يعرّف ناي القوة الصلبة بالقدرة على الوصول لما تريد من الآخر قسرًا. وتتمثل في القوة العينية الملموسة، كالقوة العسكرية والمالية التي تسمح بفرض نفوذ مالكها على الآخر للامتثال لأهدافه وتحقيق مصالحه. يضرب عصام الفيلالي و جوليو جالاروتي[7] تشبيهًا يشرحان فيه مفهومي القوة الناعمة والصلبة بالقول: «يستطيع المرء الوصول إلى مراده وحماية مصالحه بالتنمر وفرد العضلات على الآخرين، لكنه يستطيع أيضًا إدراك مبتغاه بواسطة وسائل تبعث في الآخرين احترامه [وتبجيله]».

تجدر الإشارة إلى أن شكل النظام الحاكم لا يعتبر شرطًا في إنتاج القوة الناعمة، سواءً أكان نظامًا ديموقراطيًا أو لاديموقراطيّ. حيث تستخدم الأنظمة اللاديموقراطية القوة الناعمة (كما الديموقراطية) على المستوى المحلي لفرض تصورات الدولة على أفرادها من خلال إيجاد جودة حياتية ونوعية، والحفاظ على اتساق اجتماعي، وليونة سياسية واقتصادية، وتوفير فرص العمل، وتعزيز دور الثقافة في المجتمع، بما يسمح بوجود خطاب رضى شعبي عام يحفظ استقرار النظام الحاكم وصيرورته، حيث تُردم الفجوة بين ما تقدمه الحكومة ومطالبات الناس. 

أما على المستوى الدولي فتعمل الأنظمة الحاكمة على رسم صورة جذابة تحترم القوانين والمنظمات والتحالفات العالمية، وتؤكد على الرغبة في مساعدة الآخرين، وحل النزاعات على أرضية العمل المشترك.

تحوز الثقافة كمصدر للقوة الناعمة أهمية خاصة، حيث تعتمد على الخصوصيات الاجتماعية الفريدة التي يتميز بها مجتمع ما عن غيره، بما يمنحه جاذبية ومركزية في أنظار شعوب وأنظمة الدول الأخرى. من ذلك، ما تصدره بعض الدول عن صور متماسكة ومتناسقة لمجتمعها، وأنماط حياة مغرية تستميل المجتمعات الأخرى. وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مُصَدّر لنمط حياتها، مكتسبةً صفة الهيمنة الثقافية على مستوى تأثيرها في الأجيال الشابة. لقد مثل نمط الحياة الأمريكي من موسيقى وسينما هوليود ومطاعم الوجبات السريعة ثقافة شعبية اجتاحت العالم. بينما مثلت الجامعات ومراكز الدراسات الأمريكية، كجامعة هارفارد ومراكز دراسات جامعة كولومبيا، مُنتهى أحلام نخبة الشعوب حول العالم.[8]

عمومًا، لا تحقق الدول أهدافها ومصالحها بالركون لإحدى القوتين، بل تعمل على المزاوجة بينهما، فيما يعرف بالقوة الذكية.[9] شدد جوزيف ناي على أهمية القوة الناعمة، حيث قد يتجاوز أثرها الاجتياح العسكري والرشاوى المالية. وخير مثال على ذلك هو التراجع الكبير في شعبية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد غزوها للعراق، حيث تسببت القوة الصلبة في انخفاض مستوى التأثير الأمريكي الثقافي، وأنتجت ردة فعل معادية كارهة لكل ما تمثله أمريكا باعتبارها سببًا لويلات الشعوب في المنطقة.[10]

فضاءات الفعل السعودي

تقع المملكة في مكانة جيو-سياسية تمنحها قدرًا عاليًا من التأثير في عدة فضاءات سياسية؛ من الفضاءات الإسلامية، إلى العربية والعالمية.

إسلاميًا؛ تمتلك المملكة تأثيرًا ثقافيًا هائلًا بحيازتها الجغرافية لمكة والمدينة المنورة، حيث تمثلان رأس مالٍ رمزي ثقافي لدى الشعوب الإسلامية. أيضًا، لطالما استجابت المملكة للعديد من النداءات من بلدان إسلامية، كالتبرعات التي قُدمت أثناء الحرب الدولية التي تعرضت لها البوسنة والهرسك.[11] في الفضاء العربي، تقدم السعودية نفسها كوسيط رئيسي دائم لحل مشاكل العرب، وواجهة أمامية للدول العربية دوليًا.[12] 

على مستوى منطقة الخليج العربي تمكنت المملكة بمعية جاراتها من تكوين حلف اقتصادي وعسكري متماسك يتمثل في مجلس التعاون الخليجي.[13] حيث لعبت من خلاله المملكة دور الأخ الكبير في حل مشاكل دول المجلس والحفاظ على مصالحها وتمثيلها في المنظمات العالمية.[14] 

أما على المستوى العالمي، فتعتبر المملكة لاعبًا رئيسيًا في حقل الطاقة مما يجعل تأثيرها شديدًا على الاقتصاد العالمي.[15] ومن ذلك، عمل المملكة على حماية مصالح دولية معينة بعدم رفع أسعار النفط من خلال قدرتها على التأثير في منظمة أوبك.

يحيلنا ما سبق إلى إمكانات المملكة وقدرتها على التأثير على المستوى الإقليمي والعالمي، مما يزيد من سطوة قوتها الناعمة وسعة انتشارها، وينبهنا إلى وجوب التعامل مع منتجاتها الإعلامية الحديثة بنباهة وحذر من خلال فهمها ضمن إطارات نظرية تمنحنا القدرة على تحليل وتأويل مخرجاتها.

فضاء التواصل الاجتماعي السعودي

يشير أليكساندر دوكالسكيس في كتابه «الاستبداد والفضاء العام»[16] إلى تشجيع الأنظمة الشمولية على استخدام الانترنت بين شعوبها في النطاقات التي قد تتسبب في تهديد وتقويض سلطتها. ويضرب مثالًا بارتفاع معدلات هذا الاستخدام بشكل ملحوظ عن متوسط الاستخدام العالمي في كل من السعودية[17] وروسيا وفيتنام وأذربيجان. ومن ذلك، نجد نسبة استخدام منصة تويترفي المملكة هي الأعلى على مستوى العالم بنسبة 41% من إجمالي مستخدمي الإنترنت في المملكة.[18]

هذا الاستخدام المفرط لم يغب عن أعين أصحاب القرار في المملكة، خصوصًا مع صعود استخدام منصات التواصل الاجتماعي مع بدايات الربيع العربي كحاضنة للحشد ومنبر لمطالب الشعوب. استطاعت النخب الحاكمة التمدد في هذه المنصات، واتخذت منها موقعًا لبث رسائل تطبيعها وإضفاء صبغة الشرعية على وجودها وسلطتها. هدفت الحكومات من ذلك إلى التحكم في النقاشات الدائرة بين الناس، وقمع الجهات المعارضة وتحطيم صورة قيادتها.[19] 

في حالة الإعلام الجديد راقب صانع القرار شركات الإعلام الناشئة الجديدة، واستخدم أساليب متعددة من الترغيب والترهيب لضبط مخرجاتها. ثم وظفها ضمن أدوات القوة الناعمة، لبث خطاب محلي وإقليمي تُقدم فيه المملكة بأفضل صورة ممكنة، بما يجعلها مثالًا يُحتذى به.

نشأة شركات الإعلام الجديد في السعودية

تعود جذور صناعة شركات الإعلام الجديد لعام 2008، حيث بدأت متأثرةً بوصول فرقة الكوميديا الارتجالية (ستاند-اب كوميدي) «محور الشر»[20] إلى البحرين. إذ قادهم البحث عن مواهب محلية إلى السعودي فهد البتيري، الذي قدّم في مرحلة البكالوريس عرضًا كوميديًا أثناء دراسته في أمريكا، والباكستاني رحمن أخثر موظف الموارد البشرية في شركة أرامكو للبترول.[21] 

مُتأثرًا بأجواء الكوميديا الارتجالية الجديدة في منطقة الخليج، نظّم أختر سلسلة من عروض الكوميديا الارتجالية تحت رعاية شركة أرامكو في عروض مغلقة خاصة تعكس نخبوية هذه المناسبات،[22] وقدمت عددًا من الأسماء التي ارتبطت بالمرحلة القادمة مثل عمر حسين.