الاستشراق هو الاستغراب – جوزيف مسعد

في كتابه الاستشراق، كرّس إدوارد سعيد جهوده للكشف عن كيفية نشوء وتشكل “الشرقي” كآخر للذات الغربية، موضحاً في هذا الكتاب المؤثر كيف تشكلت هذه الذات الغربية. وقد تولّد عن هذا الكتاب فيما بعد طائفة كبيرة من الأدبيات التي حذت حذوه.

في هذه المقالة الموجزة، أحاجج  بأن التأثير طويل الأمد والمستمر لكتاب الاستشراق إنما يكمن في كشفه عن أن مفهوم الاستغراب ليس سوى دعامة  حاضنة للخطاب والمؤسسات الاستشراقية. فبينما لا يسمي سعيد عادة ما يفترضه الاستشراق بـ “الاستغراب”، ورغم أن تعامله مع مفهوم الاستغراب، سواء في  كتابه هذا أو في كتاباته اللاحقة، ضئيل وغير متسق في بعض الأحيان مع الجهاز النظري الذي أنشأه في كتاب الاستشراق، إلا أن تعريف الاستغراب الذي سوف أعرضه في هذه المقالة مبنيٌ، كما سنرى، على توليفة سعيدية محضة. وبالرغم من أن منتقدي سعيد، المتعاطفين مع مشروعه والمبغضين له على حد سواء، قد عمدوا إلى استملاك هذا المصطلح وانتزاعه من نص سعيد على نحو فج ومنفر، إلا أن قراءة متأنية للمحور الرئيس لحجة سعيد في كتابه تزودنا بمفهوم معين للاستغراب كخطاب تشكّل من خلاله، كرد فعل بالمعنى النيتشوي، ما أصبح يسمى بـ “الغرب”، وذلك عبر مجموعة من الإسقاطات التي أخرنت العالم كله (أي جعلته آخراً)  خارج نطاق هذا الغرب المتشكل.

يشرح لنا سعيد كيف أن الشرقيّ يستحضر هوية الغربيّ، حيث يقول: “هذه التصنيفات، مثل تصنيف دجّال (أو شرقيّ، في مثل هذا سياق) تلمح بـ، أو بالأحرى  تستوجب، نقيضاً لها، على أن لا يكون هذا النقيض شيئا آخرغير حقيقي وأن لا يكون أيضاً بحاجة مستمرة لأن يُعرّف تعريفاً صريحاً. وهذا ‎النقيض هو” الغربيّ.”[1] ومن الأمثلة  على ذلك: كيف أن “المُتَع الغريبة” عند الشرقيين تخدم عملية إبراز حكمة وعقلانية العادات الغربيّة.[2]” ومن ذلكم، يستخلص سعيد بأن مفهوم الاستشراق قد وُظّف في القرن العشرين كـ “شيفرة  تؤوِّل أوروبا من خلالها  ذاتَها والشرقَ أيضاً لنفسها.”[3] وعبر نقاشه لعمل إرنست رينان، يوضح لنا سعيد أنه:” ليس من المبالغة القول أن مختبر رينان الفيلولوجي هو الحيز الفعلي لنزعته العرقية الأوروبية، لكن ما نحن بحاجة لتأكيده هنا هو أن لا وجود لهذا المختبر خارج هذا الخطاب، الذي يُنتِج ويُعرِّف هذا المختبر عبر كتابته المستمرة له. وبالتالي، حتى الثقافة التي دعاها بالعضوية والحيّة- –أي أوروبا–هي أيضا كائن خُلق في المختبر ومن خلال الفيلولوجيا.”[4] وقد كان فَهمُ سعيد الذكي في قراءته لريموند شواب يعرِّف هذه العلاقة بوضوح في أعمال الأخير: “ففي رأي شواب، مهما بدا الشرق مؤخرنا  في البدئ (أي جُعل آخَراً)، إلا أنه يظل مكمِّلا للغرب، والعكس صحيح”[5]. فالاستشراق إذاً، وفقاً لشروحات سعيد، هو عنصر مهم، إن لم يكن العنصر الأهم، في تشكيل موضوع  الاستغراب المفترض، أي الغرب.