سحر القصة الشفوية بنكهة الأدب المكتوب

لا يعتبر كتاب "حياة مليئة بالحفر" مجرَّد صورة قوية الدلالة، تصوِّر حياة أفقر الفقراء في المغرب إبَّان فترة الاستعمار، بل هو أيضًا خير دليل على التمكّن من نقل سحر القصص الشفوية التي تُروى بشكل مباشر إلى الأدب المكتوب. ريتشارد ماركوس يستعرض هذا الكتاب.

نشرت الآن دار النشر الأنجلو أمريكية، هاربر كولينز، طبعة جديدة من هذا الكتاب الذي تم نشره باللغة الانكليزية أوَّل مرة في العام 1964

​​ يمكن تقسيم الإرث الثقافي الذي تركه الكاتب الأميركي بول بولز Paul Bowles - الذي ولد في عام 1910 وتوفي في عام 1999 - إلى ثلاثة مجالات اهتمام أساسية متساوية؛ هي أعماله الأدبية ومؤلفاته الموسيقية وكذلك ترجماته ونقله عن أعمال بعض المؤلفين العرب من المغرب، البلد الذي اختاره ليكون وطنه.

وعلى العكس من الكثيرين من أبناء الدول الغربية ممن كانوا يزورون العالم العربي ويستقرّون فيه ويقومون بفعل كلَّ شيء، من أجل عزل أنفسهم عن السكَّان المحليين، فإنَّ بول بولز لم يدع هذا العالم يتدفَّق فقط في أعماله الخاصة - سواء في مؤلفاته الكتابية أو الموسيقية، بل كان أيضًا يتعاون مع بعض المؤلفين المحليين المغاربيين في ترجمة أعمالهم ومؤلفاتهم؛ وبالإضافة إلى ذلك كان يساعدهم في نشر مؤلفاتهم في الغرب، وذلك من خلال إعارته اسمه لهم.

ولا شكّ في أنَّ عمله المشترك مع الحكواتي المغربي، محمد مرابط كان الأكثر غزارة وإنتاجًا، إذ نتج عن هذا العمل المشترك في الفترة من عام 1967 وحتى عام 1986 اثنا عشر كتابًا؛ فيها الكثير من القصص القصيرة التي نشرت جميعها. غير أنَّ أوَّل عمل مشترك قام به بول بولز مع شخص مغربي قد أثمر أيضًا وبصورة جديرة بالملاحظة.

وكتاب "حياة مليئة بالحفر" A Life Full of Holes للعربي العياشي Larbi Layachi، المعروف أكثر باسمه المستعار، إدريس بن حامد الشرادي، صدر لأوَّل مرة في العام 1964 باللغة الانكليزية (وصدر باللغة الألمانية في العام 1985 - وبالفرنسية في العام 1965 عن دار نشر غاليمار). وهذا الكتاب حقَّق نجاحًا كبيرًا وقد تمت إعادة نشره وطبعه عدة مرات، وتم نشره أخيرًا لدى دار نشر هاربر كولينز Harper Collins الأنجلو أمريكية.

رواية يرويها بائع متجوِّل لا يستطيع القراءة والكتابة

ولن يجد القارئ الذي يرغب في البحث على شبكة الإنترنت عن معلومات حول العربي العياشي أو حول إدريس بن حامد الشرادي إلاَّ القليل من المعلومات. وربَّما يحصل على معلومة عابرة تفيد بأنَّه انتقل في آخر المطاف إلى الولايات المتَّحدة الأمريكية، وأنَّه نشر كتابين آخرين وأنَّه عاش باسمين مستعارين آخرين. ونتعرَّف بالإضافة إلى ذلك على أنَّه وُلد في العام 1937، وأنَّه كان يعمل عندما التقى بول بولز في عام 1961 بائعًا متجوِّلاً، ولم يكن يستطيع القراءة والكتابة.

وبول بولز لم يقل قطّ كيف تكوَّنت صداقته مع العربي العياشي، ولكن طبقًا للمصادر فإنَّ العربي العياشي كان يزور بول بولز كثيرًا. ولا بدّ أيضًا من أن تكون فكرة كتابة كتاب "حياة مليئة بالحفر" قد تكوَّنت أثناء واحدة من هذه الزيارات.

ومثلما يقول بول بولز في مقدِّمته فقد "كتبا" هما الاثنان كتاب "حياة مليئة بالحفر" أثناء عدد من الأمسيات التي كان يسجِّل فيها العياشي قصَّته في جهاز تسجيل صوتي. وبول بولز اندهش أيضًا من أنَّ صديقه كان يستطيع سرد القصة من دون فترات استراحة، واندهش كذلك من أنَّه نادرًا ما كان العياشي يضطر إلى تصحيح شيء ما أو حذفه. ومثلما يقول بول بولز: "لم يكن الشرادي يتردَّد قطّ ... ولم يكن يغيِّر شدة تعبيره وطلاقة لسانه".

طفولة في العمل القسري

بول بولز، الصورة: ويكيبيديا
الكاتب الأمريكي بول بولز - دوَّن هذه القصة لصالح البائع المتجوِّل الأمِّي، إدريس بن حامد الشرادي وترجمها إلى اللغة الإنكليزية

​​ وكتاب "حياة مليئة بالحفر" يروي قصة أحمد بن سعيد الحضاري، ابتداءً من الفترة المبكرة من طفولته وحتى فترة بلوغه وكفاحه من أجل البقاء على قيد الحياة. وفي حين أنَّ الفقر وحده يشكِّل عبئًا ثقيلاً بالنسبة لطفل صغير، فإنَّ حياة أحمد تزداد سوءًا بعد أن تتزوَّج والدته الأرملة مرة أخرى. وفي حين أنَّ حياته كانت محتملة شيئًا ما عندما كان ما يزال هو الطفل الوحيد، يتَّضح بعد فترة قصيرة من ولادة أخيه من أمِّه أنَّ زوج أمِّه لا يرغب فيه، إذ يقول عنه: "إذا كان لا يعمل ولا يحضر مالاً إلى البيت، فأنا لا أرى أي سبب للإنفاق على طعامه أو ثيابه".

وحتى إن كان من الممكن تفهّم هذا الموقف لو كان الأمر يتعلَّق بشاب لا يقوم بأي شيء آخر سوى المكوث في البيت ويرفض القيام بأي شيء، فإنَّ الحال تبدو مختلفة مع هذا الطفل الصغير؛ إذ إنَّ أحمد كان يعمل في طفولته مثل عبد فُرض عليه العمل بالسخرة، وذلك لأنَّ أرباب العمل الذين كان يعمل في خدمتهم كانوا يرسلون الأموال التي كان يكسبها مباشرة إلى زوج أمِّه الذي لم يكن يعطيه من هذا المال أي فلس.

حضور الاستعمار المستمر

ولهذا السبب فليس من الغريب أن ينزلق أحمد بسرعة إلى الجريمة. ولكن في الواقع قبل أن يرتكب جرائمه الجنائية الأولى، يرى القارئ كم كان من السهل أن يتعرَّض شخص عربي ما يعيش في المغرب لتعسّف الأجهزة القضائية التي كان يديرها الاستعمار في ذلك العهد؛ إذ يتم إلقاء القبض على أحمد ووالدته أثناء سفرهما إلى قرية جدِّه ويتم وضعهما في السجن، وذلك لأنَّهما لا يستطيعان إثبات أنَّ لديهما في الحقيقة أقارب في تلك القرية كانا في طريقهما لزيارتهم. وفي تلك الحقبة لم يكن يُسمح للعرب السفر داخل بلادهم إلاَّ إذا كان بإمكانهم تقديم أوراق ثبوتية تُثبت سبب سفرهم أو تحتوي على دليل يثبت أن لهم علاقة أسرية في المكان الذي يقصدون السفر إليه.

وحتى إذا كانت الحياة التي عاشها أحمد ستبدو عادية كحياة أي شاب عربي من أبناء جيله، فإنَّ تحفّظات العرب تجاه الغرب والدول التي استعمرتهم في السابق تصل إلى أكثر من ذلك. وعلى الرغم من أنَّ "النصارى" - مثلما كان العرب الفقراء يسمّون المستعمرين المسيحيين - كانوا يعيشون بمعزل عن الحياة اليومية التي يعيشها عموم أبناء الشعب العربي، بحيث أنَّهم لم يكونوا يتَّصلون مباشرة مع أحمد أو مع أصدقائه، إلاَّ أنَّ لهم في قصة إدريس الشرادي هذه حضور مستمر، كما أنَّهم يملكون أيضًا أعلى سلطة تشريعية تصنع القرارات.

سحر السرد الشفوي المباشر

ويُحكم على أحمد بعدما يتم إلقاء القبض عليه أثناء بيع الحشيش بالسجن. وكذلك تبيِّن القصة السبب الذي يكمن خلف الحكم على أحمد بالسجن؛ إذ تسعى الحكومة الاستعمارية إلى جعل المغاربة يتحوّلون إلى تدخين التبغ، وذلك لأنَّ الأوروبيين يسيطررون على سوق التبغ.

وعلى الرغم من أنَّ "النصارى" يتركون أتباعهم العرب يقومون بالعمل القذر، إلاَّ أنَّهم في النهاية هم الذين يمسكون زمام الأمور بأيديهم، ويحكمون على أشخاص مثل أحمد بأن يعيش حياته في دوامة لا تنتهي من الفقر والجريمة. ومع أنَّ صور الحرمان الذي يعيشه أحمد والصعوبات التي تواجهه تثير الفزع بما فيه الكفاية، إلاَّ أنَّ هذه القصة تستمد قوَّتها قبل كلِّ شيء من أسلوب سردها:

إذ لم تتم كتابتها من وجهة نظر شخص ثالث، بل إنَّ بطلها يخاطب القارئ بشكل مباشر؛ ويعزِّز هذا الانطباع تطابق هوية إدريس الشرادي مع الشخصية الرئيسية في هذه القصة، وكونها أيضًا مكتوبة بصيغة الزمن الحاضر، فإنَّ ذلك يضفي عليها صبغة مباشرة عادة ما تفتقر لها النصوص الروائية الأخرى.

وفي هذه القصة تتم وبصورة مباشرة إعادة كلِّ حادثة وقعت في حياة أحمد، بحيث أنَّنا نعيشها في اللحظة نفسها مثله هو، وتتم كذلك إزالة الحواجز المعتادة بين شخصيات رواية ما وقرَّائها. وكتاب "حياة مليئة بالحفر" لا يعتبر مجرَّد صورة قوية الدلالة تصوِّر حياة أفقر الفقراء في المغرب إبَّان فترة الاستعمار في الستينيات، بل هو أيضًا خير دليل على التمكّن من نقل سحر القصص الشفوية التي تُروى بشكل مباشر إلى الأدب المكتوب. وفي العادة يحاول المرء عند نقل قصة شفوية ما تحويلها إلى رواية. وبما أنَّه لم يتم في هذا الكتاب اختيار هذا الأسلوب، فإنَّ ذلك يجعل من كتاب "حياة مليئة بالحفر" كتابًا خاصًا وفريدًا من نوعه.

ريتشارد ماركوس
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

رواية "يمّة - أمّي، ابني" للكاتب الطاهر بن جلون:
"ليست مجنونة، لكنها على سفر"
يتابع الكاتب المغربي الطاهر بن جلون حياة أمّه التي تعاني من اضطرابات في الذاكرة، متقصيًا سيرتها الذاتية منذ زواجها الأول الذي استمر فترة قصيرة حتى شيخوختها، حيث أصبحت لا تستطيع مفارقة السرير ولم تعد تتعرّف على نفسها. أنغيلا شادر قرأت هذه الرواية التي ترجمت إلى الألمانية.

للكاتب المغربي محمد خير الدين:
وقائع أسطورة مغربية
ظهرت الآن باللغة الألمانية آخر رواية كتبها الكاتب المغربي محمد خيرالدين تحت عنوان "صراعه الأخير". رواية تدور أحداثها حول شخصية أغون شيش الأسطورية وتزخر بالذكريات الشخصية والذاكرة الجماعية. مراجعة للرواية كتبتها رغينا كايل.

وفاة الكاتب المغربي إدريس الشرايبي (1926؟ - 2007)
لقاء مع الكاتب الشَبَحْ
توفي إدريس الشرايبي أهم روائيي الأدب المغربي المعاصر يوم الأول من نيسان/أبريل الجاري عن عمرٍ ناهز الثمانين عامًا. ريغينا كايل-ساغافه، مترجمة أعماله إلى الألمانية تقوم باسترجاع ذكراه.