الدين والهوية في المقام الأول

دراسة جديدة لمعهد الشرق الألماني تتناول العلاقات المتوترة للعالم الإسلامي بالغرب بعد عمليات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. سيغريد فات تقدم أهم نتائج الدراسة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الصورة: كاي فيدهوفر

​​

منذ حرب الخليج الثانية 1990/1991، وبصفة أكثر بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وما تبعه من سياسة خارجية هجومية للولايات المتحدة تصاعدت وتيرة الجدالات حول الهوية الخاصة والتفكير في مسألة التحصن تجاه "الغرب" ومساعيه الهيمنية وتدخلاته في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. تعبر هذه الظاهرة عن نفسها بصفة أساسية في النقاشات الدائرة في مصر وفي بلدان الشرق الأوسط بصفة عامة.

وقد أضحى المؤيدون للتغيير الديموقراطي والتحديث حسب النمط الغربي يجدون اليوم بسبب السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط أكثر صعوبات من ذي قبل في تمرير "المشاريع الغربية" وإثارة نقاش بناء حولها.

فالدفاع عن السيادة الوطنية وبالتالي عن المشاريع الأصيلة الخاصة وحماية الهوية الثقافية والدينية أصبحت تحتل موقع المحور من الجدالات في الوقت الحاضر.

أما تسييس الدين عن طريق الحركات الإسلامية وقيادات الدول فلم يتم التوصل إلى تحييده –كما تثبت ذلك هذه الدراسة. وعلى مستوى الجهات الحاكمة لا تتخذ أية مبادرات من أجل تركيز حيادية الدولة تجاه المجموعات العقائدية. بل إن الاتجاه ينحو إلى العكس. فأغلبية الحركات الإسلامية والفقهاء الوهابيون وعلماء الأزهر يحاججون بشدة ضد كلا "المشروعين الغربيين": العلمانية وإرساء الديموقراطية.

التجديد الديموقراطي غير مرغوب

الدول التي تستمد شرعيتها من الدين ( السعودية والمغرب) وكذلك الحكومات الجمهورية في شمال إفريقيا والشرقين الأدنى والأوسط التي دعّمت إحكام سيطرتها على المجالات الدينية في إطار استفحال قوى المعارضة السياسية ذات التوجه الإسلاموي وتحولها إلى قوى منافسة لها على السلطة، هذه الحكومات ترفض من منطلق الحرص على شرعيتها وعلى الحفاظ على السلطة كل جدال حول العلمانية.

أما مسألة حيادية الدولة تجاه المجموعات العقائدية ومن ورائها التخلي عن الدين كعنصر محدد لكل مجالات الحياة والمعاملات لصالح مؤسسات قائمة على اعتبارات عقلانية مستقلة فقد غدت موضوعة محرمة. لا بد من الحفاظ على صلاحيات الدولة في تسيير الشؤون الدينية إذن. والإسلاميون لا يضعون هذه المسألة موضع سؤال إلا إذا صلاحيات التسيير هذه منهم. وليس مبدأ التسيير في حد ذاته هو الذي ينكرونه على الدولة.

يؤثر هذا الموقف على الجدالات القائمة حول الإصلاح والتي تجد مسألتا العلمانية والديموقراطية (بالمعنى الغربي) نفسهما فيها محيّدتين من قبل أغلبية التيارات. فالإسلاميون يماثلون عادة بين العلمانية والتخلي عن الدين وبالتالي يجعلون محاججتهم متيسّرة من أجل رفض العلمانية ومحاربتها.

إن التبعات التي تنجر عن هذه الرؤية في مجالات حقوق الإنسان وحرية المعتقد تبدو واضحة للعيان: موضوعة حرية المعتقد في علاقتها بالمسلمين وبغير المسلمين من أصحاب المعتقدات المغايرة داخل دول ذات أغلبية مسلمة تحيّد، وتسامح الإسلام الذي طالما تكرر ذكره تجاه أصحاب المعتقدات المختلفة لا يعني بالضرورة حرية المعتقد.

ليست هناك من إمكانية لجدال مفتوح حول هذا الإشكال تتراءى في الأفق. أما تأثير المثقفين المسلمين الذين يجتهدون من أجل إجراء إصلاح (تحديث) على طرائق تأويل وفهم الإسلام فإنه يظل هامشيا كما في ما مضى.

وهكذا فإن الاتجاه الديني المحافظ الذي يهيمن داخل شرائح واسعة من الشعب وكذلك تأثيرات الحركات الإسلامية تعبر عن حضورها بوضوح لدى أغلب الحكومات وفي كل النقاشات السياسية والاجتماعية.

الطريق "الإسلامية" هو الحل

إن ممثلي الاتجاه الفكري الديني المحافظ والذين غالبا ما ينتمون إلى المؤسسة الدينية الرسمية (الحكومية)، وممثلوا الاتجاه الفكري الإسلاموي (للحركات الإسلامية) يتعاضدون ويدعمون بعضهم البعض: فالكثير من المواقف تتراكب ولا يمكن التفريق بينها عندما يتعلق الأمر بالمسائل الأخلاقية أو باتخاذ موقف من"الغرب".

كلا الاتجاهين يسعيان إلى الدعاية إلى طريق "إسلامي" للإصلاح وإلى إرساء حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وطريقة للتعامل مع العولمة والحفاظ على الهوية.

صحيح أن المصطلحات عصرية، لكن المفاهيم تفرغ هنا من محتوياتها "الغربية" لتتم "أسلمتها" وفقا لرؤية وتأويل أصوليين للإسلام.

أما ما يبدو في الفترة الأخيرة لدى بعض الإسلاميين من مظاهر التلاؤم مع روح العصر ومع الإمكانيات التي تمنحها التقنيات الحديثة للإعلام والاتصال، ومع المتغيرات الطارئة على النمط الاستهلاكي وعادات اللباس والطرق التي يتوخونها في تقديم رسالتهم للأجيال الشابة، والتي تبدو علاوة على ذلك مفصلة على قياس هذه الشرائح الاجتماعية كما هو الشأن على سبيل المثال لدى الداعية المصري ذي الشعبية الواسعة عمرو خالد، كل هذا لا ينبغي أن يلهينا عن كون المحتوى الذي يسعى هؤلاء إلى نشره لا يلتزم مطلقا بشيء من مقتضيات إصلاح إسلامي حديث.

صورة ثنائية عن العالم

إن الصورة المروجة عن العالم تظل عمليا ملتزمة بثنائية تضع خطا فاصلا بين عالمين ومطالبة بتدعيم آليات الحدود الفاصلة. يتم تقديم العالم الغربي كـ"عالم عدواني" للعالم الإسلامي؛ والهدف المعلن من وراء ذلك هو انتصار الإسلام على "الغرب المتدنّي أخلاقيا". أما التعاليم الدينية فتعد "تشريعا إلهيا" ولا يمكن بالتالي مناقشتها.

بعض المؤسسات الدينية وأجزاء من الحركة الإسلامية التي أعلنت تنصلها من العنف تمكنت في السنوات الماضية من أن تحظى بوجود قانوني في أغلب البلدان، أو أنها دعّمت التعامل معها بتسامح.

وقد أعطت حرب العراق دفعا متجددا لهذه الحركات بحيث انتعشت الصورة الثنائية للعالم أكثر. وقد غدا بإمكان الصورة التي تقدمها عن المخاطر التي تتهدد الهوية (الثقافية الدينية) من طرف القوى الأجنبية أن تجد لها بحكم الأحداث الواقعية رواجا وتجاوبا حتى في صفوف النخبة المثقفة من غير الإسلاميين.

المواقف الليبرالية في وضع دفاعي

أصبحت السياسة الخارجية الأميركية منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول والحرب العراقية لسنة2003 تمثل معينا لا ينضب من الحجج لتبرير أسلمة الجدال حول مسألة الهوية والإصلاحات السياسية. وقد غدا هناك إجماع حول رفض التغيير الديموقراطي المفروض وذي الطابع الغربي. والرأي الذي غدا سائدا هو أن تدعيم الهوية الثقافية الدينية، الإسلامية على وجه التحديد هو وحده الكفيل بتفادي التدخلات الأجنبية والهيمنة الثقافية وسيادة النمط الموحد (في إطار المسار العولمي).

وهكذا فإن المواقف التي تدعو إلى الليبرالية وإرساء الديموقراطية حسب المفهوم الغربي تجد نفسها في كل الجدالات مندحرة في وضع دفاعي، إن لم تكن في موقع الهامش. الحركات ذات التوجه البربري في المغرب والجزائر هي وحدها التي ظلت بالرغم من ذلك في مأمن من تأثيرات هذا التطور، وهي تخوض في الوقت الحالي جدالا ساخنا حول الإصلاح السياسي ومسائل الهوية، ويظل هدفها المعلن دوما هو علمانية وديموقراطية الدولة.

الأسلمة كردة فعل أمام السياسة الخارجية الأميركية والعولمة

إن "الانتعاشة الجديدة" التي راحت تعرفها التحالفات والخطابات القومية الإسلامية، أو بعبارة أخرى الإسلاموية تمثل ردة فعل على ما يلمس من تبعات سلبية للعولمة وعلى سلوك الإدارة الأميركية منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001: لقد قادت هذه الحساسية بسبب الخصم المشترك (الولايات المتحدة ) إلى تقارب بين القوى الإسلامية والمحافظة من جهة واليساريين القدامى والقوميين العرب والليبراليين من جهة ثانية.

لذلك يتمحور نقاش العولمة بصفة أساسية حول مسألة العولمة الثقافية وتأثيراتها و"الاستراتيجية الإمبريالية الأميركية". كما أن الجدل القومي–الإمبريالي الذي عاودته الانتعاشة منذ حرب الخليج 1990/1991 قد راح يروج لتشييد "جدار وقاية" ضد التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية وافتقاد الهوية، ويعود مجددا لمسألة القومية العربية كموضوع للنقاش على الأقل.

إستعمال الإسلام السياسي كوسيلة

لمثل هذا الغرض الوقائي في مواجهة العولمة الثقافية تم أيضا تقديم مشروع الرئيس مبارك الذي أعلن عن انطلاقته في شهر يناير 2001 بمصر والذي يلوح بـ"إعادة إحياء" القومية داخل خطاب ذي طابع وعظي أخلاقي. وقد جاء هذا الخطاب الرسمي متبنيا لمواقف ومطالب للإسلاميين.

إن الهدف المشترك يعني أيضا "الاحتماء" والتصدي للتأثيرات الأجنبية ولافتقاد الهوية وسيادة النمط الموحد والهيمنة التي يمارسها الغير. أما المشاريع "الغربية" فيعلن عنها كمشاريع لا تتلاءم والقيم الثقافية الخاصة والهوية والخصوصية الثقافية.

"الاحتماء من التأثيرات الأجنبية" و"الحفاظ على الأصالة" و"احترام الخصوصية" هي الشعارات التي توجه وتتحكم في الجدالات حاليا. كما يقع التركيز بصفة واضحة على المماثلة بين العولمة(الثقافية) و"الاستغراب" و "الأمركة".

إن الحجج الثقافية الدينية والمواقف الإسلاموية والقومية العربية تجد لها رواجا في الوقت الحالي سواء تعلق الأمر بالنقاش حول الهوية أو بالجدال حول الإصلاح السياسي والديموقراطية ومناهضة العولمة والمعاداة لأميركا أومعاداة الإمبريالية. وفي أغلب البلدان تجد مسائل حقوق الإنسان وبصفة خاصة النقاش حول حقوق المرأة نفسها مندحرة إلى مواقع خلفية في هذه الجدالات.

أما "الليبراليون" من ذوي التوجه العلماني الذين ينشطون من أجل إصلاحات ديموقراطية للنظام السياسي ومن أجل تحديث مجتمعي حسب النمط الأوروبي فلا يمثلون سوى أقلية في كل البلدان.
هؤلاء يفتقرون إلى التجذر في المجتمع. كما أن هذه الأقلية من الليبراليين العلمانيين لا تتدخل علاوة على ذلك بصفة هجومية دائما من أجل إرساء الديموقراطية، كما أنها لا تمثل دوما عنصرا منتقدا بقوة ودون تنازل ومناهضا لسياسة الدولة ؛ بل إن جزء من هؤلاء الليبراليين قد غدوا مندمجين في أجهزة الدولة وإدارتها.

تدعيم الهوية الثقافية الدينية

لقد أثبتت التنظيمات والجماعات الإسلامية منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وبالرغم من المحاصرة والمراقبة المتشددة في العديد من البلدان أنها على مستوى رفيع من المرونة. إنها تعرف كيف تلائم أفكارها مع الأوضاع المحيطة وكيف تستوحي من الملابسات السياسية الحالية حججا تدعم تأثيرها داخل المجتمع. وقد نجحت هذه الفصائل بفضل ذلك في أن تشحذ داخل شرائح واسعة من المجتمع مخاوف كامنة بخصوص التفريطات الدينية والثقافية وخطر فقدان الهوية.

إن هذه المخاوف التي تدور حول "حماية الإسلام"، أو صيانة التأثير الديني، وحماية موقع الدين داخل الدولة والمجتمع ومسألة الهوية، تحتل موقع المركز في مواقف جزء كبير من شعوب بلدان شمال إفريقيا والشرقين الأدنى والأوسط من سياسة "الغرب" تجاه العالم العربي والإسلامي.

ليس هناك من تقهقر للإسلام السياسي في الأفق

تثبت نتائج هذه الدراسة أنه ليس هناك من نهاية منتظرة في المدى المتوسط للحركة الإسلامية في أغلب بلدان شمال إفريقيا والشرقين الأدنى والأوسط. بل على العكس من ذلك هناك حظوظ أكثر أمام الإسلاميين لأسلمة المجتمعات بحسب رؤيتهم الخاصة. وقد عملت المخاوف التي أثارتها السياسة الأميركية منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 على جعل الخلافات بين الإسلاميين من جهة والقوميين اللائكيين واليساريين السابقين من جهة أخرى تتراجع إلى مؤخرة الاهتمامات لصالح موقف مشترك للتصدي "للخصم المشترك".

سيغريد فات، معهد الشرق الألماني، حقوق الطبع هامبورغ 2004
ترجمة علي مصباح

تم إعداد هذه الدراسة في نهاية شهر فبراير 2004 من طرف معهد الشرق الألماني بهامبورغ في إطار البرنامج الخاص للبحوث menavision 2010.