«مانيفستو الهشاشة»: من يرث بيروت وستينياتها الذهبية؟

مجرد دخول الزائر إلى معرض «بيروت والستينيات الذهبية: مانيفستو الهشاشة»، الذي افتتح مؤخرًا في مبنى مارتين چروبيوس (Martin-Gropius-Bau)، أحد أهم محافل الفن الحديث والمعاصر في برلين، تستقبله لوحة من عام 1958، قد تكون الأكثر فجاجة من بين الأعمال المعروضة والأكثر تضادًا مع أسطورة فن منمق ومنفتح على الحداثة الغربية. بأسلوب أخرق، تُظهِر اللوحة -والتي لا تحمل عنوانًا- بحرًا تغزوه بوارج رمادية على متنها بحارة بقمصان بيضاء، بينما يحتل آخرون الشاطئ بأجساد مكشوفة. الرسام، خليل زغيب، لم يكن فنانًا، بل حلاقًا، إلا أنه كان من القلائل، إن لم يكن الوحيد، ممن تعرضوا بلوحته إلى «عملية الخفاش الأزرق» التي قام بها الرئيس الأميركي إيزنهاور لمواجهة المد اليساري العروبي في لبنان، والتي بدأت بالإنزال العسكري على شاطئ خلدة، وانتهت بانتخاب فؤاد شهاب رئيسًا.

ولدت فكرة المعرض على يد المؤرخ والقيّم الفني اللبناني سام بردويل بعد عمل بحثي استمر لسنوات[1] في «فترة قصيرة لكن غنية بالتخمّر الفني والسياسي» بحسب كلمات بردويل، ما بين أزمة 1958 وبداية الحرب الأهلية عام 1975. لكن وبعكس المعرض المشابه للفن اللبناني الحديث والمعاصر الذي أقامه معهد العالم العربي في باريس مؤخرًا، لا يساوم معرض برلين على تغذية الحنين والانبهار ببيروت الستينات، ولا الشفقة عليها اليوم (مشاعر حاضرة أصلًا بحضور ذلك الكم من الصور والأعمال)، بل يحاول مساءلة تلك المشاعر بعمقها التاريخي والاجتماعي، ولو جاء ذلك على حساب تقديم صورة ملمّعة وسهلة للفن اللبناني.

يؤكد تلك المقاربة القرار الجريء بافتتاح المعرض بلوحة زغيب المذكورة، والتي يعلن من خلالها المعرض نيته محو الحدود بين الفني والوثائقي، وذلك بعرض أعمال فنية عادية أو أقل لقيمتها الأرشيفية وأعمال أرشيفية لقيمتها الجمالية: المهم هو ما تمكنه التشكيلة المعروضة من طرح لأسئلة جديدة حول الفن البيروتي وعلاقته بظروفه.

يرتّب المعرض الطروحات تلك في أربع محاور رئيسية، بدءًا بالمدينة وتناقضاتها، بين صور شاطئها وحفلاتها الليلية وأحيائها الغنية من جهة، والحياة العمالية لضواحيها ومخيماتها من جهة أخرى، ومن ثم ننتقل إلى علاقة الفنانين، وبالتحديد الفنانات، بالجسد وبالجنسانية في ظلّ الانفتاح الستينياتي والحركات النسوية، ومن ثم نعبر إلى مشكلة الشكل الفني والطرق المختلفة التي بحث بها فنانو بيروت عن أسلوب يعبر عنهم في التقليد تارةً وفي بلدان المهجر تارةً أخرى، قبل أن ينتهي المعرض بالتسييس المتصاعد للفن بعد النكسة، وحركات المقاومة والإضراب والمظاهرات التي تلتها وصولًا إلى الحرب، وهي سردية صارت مألوفة بعض الشيء («من سويسرا الشرق إلى هانوي العرب» بحسب كلمات فواز طرابلسي)، والتي من المرجح أن يكون بردويل قد استوحاها من دراسة زينة معاصري حديثة الصدور حول الفن المطبوع في بيروت، والتي تتبعت محاور مشابهة انطلاقًا من الشاطئ والمشاهد السياحية، مرورًا بالعولمة التدريجية لفناني بيروت ومن ثم إلى راديكاليتهم وعلاقتهم بحركات التحرر العالمية وبفلسطين.[2]

تقوم سينوچرافيا المعرض على هياكل خشبية ثلاثية الأبعاد، تقسّم الصالات إلى مساحات صغيرة لا متجانسة، وكأن الفراغ ورشة بناء كبيرة تعيش بينها الصور والمنحوتات. تسمح تلك الهياكل بأسطحها الأفقية والعمودية المتراكبة بعرض وسائط مختلفة في آن واحد، بحيث يمزج كل قسم أعمالًا فنية بصور فوتوغرافية ومواد أرشيفية مختلفة (منشورات، كتيبات معارض) و مقتطفات تلفزيونية استمدها بردويل من أرشيف المؤسسة اللبنانية للإرسال، توثق تارةً الحياة في بيروت وتارةً الفنانين المعروضين أثناء عملهم.

لكن المبادرة الأهم في المعرض قد تكون القرار بتعليق الكثير من اللوحات على صور فوتوغرافية مكبرّة بحجم الجدار، بدلًا من الجدران البيضاء التي قضت بها أعراف الفن منذ القرن الماضي. فمنذ الخمسينيات على الأقل، ارتبط الجدار الأبيض بأيديولوجيا حداثوية دعت إلى عزل الفن عن الحياة وتأمله فقط لقيمته الشكلية والجمالية في فضاء معقم، دون أي نوافذ أو أثر من الحياة الخارجية قد تعكر صفو استقلاليته وحياده.[3] باستبدال ذلك الجدار بصور فوتوغرافية، يجبر معرض بردويل المشاهد على فهم اللوحة على خلفية صورة غالبًا ما تناقضها أو تكملها، كاسرًا بذلك وهم حياد اللوحة أو استقلال الفن عن الحياة اليومية.

في القسم الأول مثلًا، يقترب المشاهد من صورة مكبرة لواجهة سينما ريفولي وسط بيروت، تظهر عليها صور سعاد حسني ترقص كاشفة عن ساقها، ينظر إليها بائع متجول يجر عربته. على الصورة عُلقت لوحة زيتية بعنوان «مشهد طبيعي» (1968) للفنان رفيق شرف، تظهر فيها طبيعة رمادية قاحلة تتوسطها بنى صفيحية تعكس بؤس سكان البقاع، إلى جانبها لوحات پول غيراغوسيان التي تمثل بؤس مخيمات اللاجئين. «الستينيات الذهبية» لم تكن ذهبية إلى هذا الحد إذًا، والبائع المتجول (ربما من البقاع) الذي ينظر إلى ساق سعاد حسني يصبح مجازًا معكوسًا للمشاهد البرليني الذي يحدق ببؤس الضواحي البيروتية في اللوحة، بحيث يولد من تراكب النظرات تلك فضاء مشحون بالمعاني الطبقية والسياسية. في مثال آخر، عُلقت اللوحة التجريدية للفنان السوري فاتح المدرس «الوحش والطفل» (1970) على صورة مكبّرة لمسيرة كتائبية في بيروت أثناء الحرب الأهلية، بحيث يبدو أحد المسلحين وكأنه يحمل اللوحة، والتي تخرج بدورها من سياقها الأصلي لتصبح مجازًا عن بلد أكلت أطفالها في وليمة عسكرية دامت 15 عامًا.

بمجابهته اللوحات بصور فوتوغرافية، يفكك المعرض الأساطير المتعلقة ببيروت واحدة وراء الأخرى («الشاطئ المتوسطي»، «الدولة الوطنية»، «سويسرا الشرق» بكازينواتها وسينماتها)، وهي استراتيجية تنجح خصوصًا عندما يكون العمل الفني باهت الحضور (كما في لوحة شفيق)، فتزيد من شحنته البصرية والمعنوية. أما عندما تكون اللوحة معقدة ومثقلة بالغموض بحد ذاتها فقد يُؤخذ على «التعليق» هذا إلغاءه لمعانيها المختلفة مقابل قراءة أحادية قد تظلمها، كما في حال لوحة المدرس أو رسومات منى السعودي التي تظهر متراكبة على صورة من جنازة جمال عبد الناصر.

ضافة إلى جرأته في عرض اللوحات، يعود للمعرض فضل التعريف بجوانب مجهولة من الفن اللبناني والعربي لأواسط القرن الماضي. في القسم المخصص للأشكال الفنية مثلًا، نكتشف تجارب تشكيلية تفوق براديكاليتها مجرد النحت والتصوير المألوفين في الفن العربي، حيث استخدمت ناديا صيقلي صفائح من الأكريل، وهي مادة بلاستيكية معالجة لتصبح شفافة، أضاءتها كهربائيًا لصناعة مجسّم يبدو خارجًا من فيلم خيال علمي، بينما يشكّل جون حديديان منحوتات من مكعبات متداخلة من المادة ذاتها بتشابهٍ صادم مع الأعمال الاختزالية (Minimalist) التي كانت بطور الظهور في الولايات المتحدة تمامًا في ذات الوقت.

يدرك الزائر تدريجيًا عبر قراءته شروحات بردويل والمواد الأرشيفية أن التنوع الأسلوبي المبهر هذا لا يمكن فصله عن تنوع المؤسسات الفنية البيروتية بانتماءاتها السياسية وصلاتها مع العالم. يتذكر المعرض تأسيس الفنانة هيلين الخال مع زوجها الشاعر يوسف الخال لـ«چاليري وون» عام 1963، ليكون أول صالة عرض فنية مستقلة احتضنت المشهد اللبناني والعربي، وحتى بضعة فنانين أجانب بين وقت وآخر، بينما أسس الزوج جورج وبريجيت شحادة «مركز الفن» عام 1967، مستقدمين إلى بيروت مجموعة أعمال سريالية لماكس إرنست وأندريه ماسون، إضافة إلى «مركز ج. ف. كينيدي الأمريكي» و«دار الفن» اليسارية التي عرضت أعمالًا سوفييتية وبولندية، ومتحف سرسق الذي خصص «صالون الخريف» السنوي لعرض أعمال معاصرة، متبعًا تقليدًا فرنسيًا استملكته عدة مستعمرات سابقة (في سورية مثلًا، يقام صالون الخريف منذ عقود أيضًا لكن بإدارة وزارة الثقافة).

تنتظر مفاجآت من نوع آخر الزائر الذي يدخل المعرض بفكرة مسبقة عن فن لبناني محافظ أو تقليدي، ففي القسم المخصص للجسد، يسلط بردويل الضوء على جانب حميمي من الفن العربي الحديث لطالما أسكتته مواضيع أخرى اعتُبرت أكثر جدية أو تسييسًا. لكن الستينيات هي فترة ظهور شعار «الشخصي هو سياسي» وبيروت، كما يذكّر نص بردويل، كانت على تواصل مع حركات التحرر الطلابية والنسوية في الستينيات، مما حولها بحسبه إلى «موقع لتجريب طرق جديدة للحياة خارج حدود المجتمع التقليدي البرجوازي». بالفعل، يحتفي القسم هذا بأعمال لبضعة فنانين ضربوا مثالًا في النسوية والكويرية في حياتهم وأعمالهم معًا، من الفنانتين هيلين الخال وهوچيت كالاند، اللتين ابتعدتا عن أزواجهنّ ومناخ العائلة لتكريس أنفسهنّ للفن، أو جوليانا سيرافيم برسوماتها السريالية الصغيرة التي رافقت بعضها كتابات ليلى بعلبكي قبيل منعها وإحالة كاتبتها للمحاكمة الأخلاقية عام 1963. الأكثر إبهارًا من بين تلك الأعمال قد تكون لوحات كالاند التي تُظهر ما يبدو للوهلة الأولى تكوينات تجريدية بتدرجات لونية بيضاء ناعمة، قبل أن يكتشف المشاهد أنها تجميعات لأعضاء بشرية، نجحت كالاند بإعادة تركيبها في تكوينات ممسوخة دون أن تكون منفرّة، بل غالبًا مضحكة ومقلقة في ذات الوقت.

لماذا لم نسمع بكلّ هذه الأعمال من قبل؟ أولًا لأن الأعمال المعروضة -باستثناء بضع لوحات من متحف سرسق- تأتي إمّا من مجموعات خاصة أو من مقتنيات ورثة الفنانين ومؤسسات فنية خاصة خارج لبنان (مؤسسة برجيل، مؤسسة الأتاسي، وأشباهها)، مما يشير إلى حقيقة تنطبق بعشرة أضعاف على منطقتنا: أن تاريخ فن بلد ما ليس فقط ما عُرض ويُعرض في متاحفها وچالرياتها وصحافتها الرسمية، بل أيضًا كل ما يُرسم ويُكتب بصمت وفي ظلمات البيوت لينتهي في ظلمات بيوت أخرى أو في المهجر، تاريخ مبعثر وهشّ تقع على عاتق مؤرخ الفن مهمة إعادة لملمته وصياغته في سردية ذات معنى.

لا شك أن بردويل نجح في المهمة، خالقًا زاوية نظر جديدة نشاهد منها كل ما عرفناه سابقًا وما لم نعرف، على الأقل لحين انتهاء المعرض وعودة الأعمال إلى أقبيتها. أما السبب الثاني (المرتبط بالأول)، فهو عائد إلى تأجج المشهد الفني البيروتي، وعلى مدى عقود، مثل بركان خامد تحت الوعي الجمعي اللبناني والعربي، في موقع لا هو موقع صمت أو تكتيم (كما في دول ديكتاتورية أخرى) ولا هو موقع اعتراف، نوع من نصف وجود على هامش التاريخ زاد في هامشيته تراجع الاهتمام الرسمي بالفن والثقافة، وإقصاء الفن من كتب التاريخ المدرسية التي لن يتحمل اهتراؤها ثقله النقدي.

ومع أننا بحاجة إلى هذا التاريخ «الآخر»، فإن كتابته تجري اليوم في عواصم غربية بالإنجليزية والألمانية والفرنسية -كما سبق وأشرت إليه في حالة إيتيل عدنان-، بحيث يصلنا بعض منه بين وقت وآخر، متأخرًا وجزئيًا (مثل ابن مهاجر يرسل المال إلى أهله).

هجرة تاريخنا هذه ليست إلا انعكاسًا لهجرة حاضرنا طبعًا. فبرلين احتضنت في السنوات الأخيرة جالية عربية كبيرة، خصوصًا من بلاد الشام والعراق، من بينهم حفنة من ألمع الفنانين العرب المعاصرين الذين (كما لو بالمصادفة) يستوحون الكثير من أعمالهم من إرث الستينيات، ومن بيروت تحديدًا (من منى حاطوم وربيع مروة وحتى فهرس الممارسات النشرية). قد يكون أولئك هم الورثة البرلينيّون المحظوظون لذلك التاريخ الآخر، أو ربما طفل سوري لاجئ قد يأتي في رحلة مدرسية إلى المعرض لتشرح له المدرسة الألمانية عن بيروت والستينيات ويعود إلى بيت أهله (الذي يكونون ربما يبيعون الفلافل في حارة نويكولن) ليحكي لهم مبهورًا عن لوحات فاتح المدرس ومنى السعودي، وهي أسماء لم يسمعوا بها في مواطنهم قط، كونها ظلت حبيسة بضع بيوت ومعارض وسط العاصمة.

لماذا لم نسمع بكلّ هذه الأعمال من قبل؟ أولًا لأن الأعمال المعروضة -باستثناء بضع لوحات من متحف سرسق- تأتي إمّا من مجموعات خاصة أو من مقتنيات ورثة الفنانين ومؤسسات فنية خاصة خارج لبنان (مؤسسة برجيل، مؤسسة الأتاسي، وأشباهها)، مما يشير إلى حقيقة تنطبق بعشرة أضعاف على منطقتنا: أن تاريخ فن بلد ما ليس فقط ما عُرض ويُعرض في متاحفها وچالرياتها وصحافتها الرسمية، بل أيضًا كل ما يُرسم ويُكتب بصمت وفي ظلمات البيوت لينتهي في ظلمات بيوت أخرى أو في المهجر، تاريخ مبعثر وهشّ تقع على عاتق مؤرخ الفن مهمة إعادة لملمته وصياغته في سردية ذات معنى.

لا شك أن بردويل نجح في المهمة، خالقًا زاوية نظر جديدة نشاهد منها كل ما عرفناه سابقًا وما لم نعرف، على الأقل لحين انتهاء المعرض وعودة الأعمال إلى أقبيتها. أما السبب الثاني (المرتبط بالأول)، فهو عائد إلى تأجج المشهد الفني البيروتي، وعلى مدى عقود، مثل بركان خامد تحت الوعي الجمعي اللبناني والعربي، في موقع لا هو موقع صمت أو تكتيم (كما في دول ديكتاتورية أخرى) ولا هو موقع اعتراف، نوع من نصف وجود على هامش التاريخ زاد في هامشيته تراجع الاهتمام الرسمي بالفن والثقافة، وإقصاء الفن من كتب التاريخ المدرسية التي لن يتحمل اهتراؤها ثقله النقدي.

ومع أننا بحاجة إلى هذا التاريخ «الآخر»، فإن كتابته تجري اليوم في عواصم غربية بالإنجليزية والألمانية والفرنسية -كما سبق وأشرت إليه في حالة إيتيل عدنان-، بحيث يصلنا بعض منه بين وقت وآخر، متأخرًا وجزئيًا (مثل ابن مهاجر يرسل المال إلى أهله).

هجرة تاريخنا هذه ليست إلا انعكاسًا لهجرة حاضرنا طبعًا. فبرلين احتضنت في السنوات الأخيرة جالية عربية كبيرة، خصوصًا من بلاد الشام والعراق، من بينهم حفنة من ألمع الفنانين العرب المعاصرين الذين (كما لو بالمصادفة) يستوحون الكثير من أعمالهم من إرث الستينيات، ومن بيروت تحديدًا (من منى حاطوم وربيع مروة وحتى فهرس الممارسات النشرية). قد يكون أولئك هم الورثة البرلينيّون المحظوظون لذلك التاريخ الآخر، أو ربما طفل سوري لاجئ قد يأتي في رحلة مدرسية إلى المعرض لتشرح له المدرسة الألمانية عن بيروت والستينيات ويعود إلى بيت أهله (الذي يكونون ربما يبيعون الفلافل في حارة نويكولن) ليحكي لهم مبهورًا عن لوحات فاتح المدرس ومنى السعودي، وهي أسماء لم يسمعوا بها في مواطنهم قط، كونها ظلت حبيسة بضع بيوت ومعارض وسط العاصمة.