بين الخوف السياسي والتضييق الإعلامي

قامت دينا الدجاني بتكليف من جامعة إنكليزية بمشروع للبحث والتقصي حول الديموقراطية والمجتمع المدني في الأردن، حيث جمعت معلومات وصوّرت بعض الأفلام، كما تعرّفت من خلال ذلك على مدى وحدود حرية التعبير عن الرأي في الأردن.

صناديق اقتراع في الأردن، الصورة: أ.ب
حسب استطلاعات الرأي في الأردن فإن نسبة كبيرة من المواطنين تتوجس من أعضاء البرلمان وصدق نواياهم الانتخابية

​​لا تزال المملكة الأردنية الهاشمية بعيدة جدًا عن ممارسة الحياة الديموقراطية حسب مفهومها في الغرب. لكن على الرغم من ذلك نلاحظ هناك منذ عقود من الزمن قدرًا من الحرية السياسية، يميِّز الأردن عن الدول العربية المجاورة لها - سوريا والعراق والمملكة العربية السعودية. فحتى أنَّ المؤرّخ، برنارد لويز الذي ينتقد الدول العربية بشدّة، يقول إنَّ "أنظمة الحكم الفردي المطلق" في العالم العربي، كما هي الحال في الأردن، تتمتَّع بأكبر الفرص لتطوير الديموقراطية.

تبدو الجهود التي تبذلها الأردن من أجل المحافظة على حرية النقد وثقافة الحوار - حتى وإن كانت هذه الحرية توصم بأنَّها محدودة - كبيرة جدًا، إذا وضعنا نصب أعيننا المشاكل التي يعاني منها هذا البلد منذ بداية الحرب على العراق: من تفجيرات في عمان ونزاعات محلية وتوتّرات وأخيرًا وليس آخرًا هجرة مئات الآلاف من اللاجئين العراقيين إلى الأردن.

وفي الوقت نفسه يتم مرارًا وتكرارًا تضييق الحدود المفروضة على الحريات - ولا يندر أن يحدث ذلك بشكل متناقض - أكثر مما عليه الحال في الكثير من الدول الأخرى، الموسومة بمزيج من التعليمات الشديدة والتفسيرات غير الرسمية لهذه القواعد والقوانين. لقد لاحظت ذلك بوضوح خاصة عندما كنت أقوم في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2007، ضمن إطار مشروع البحث والتقصي الذي كنت أجريه لصالح جامعة إنكليزية، بجولة عبر الأردن وكنت أجمع معلومات وأصوّر فيلمًا.

أزمة ثقة

تصادفت جولتي في الأردن مع الدورة الخامسة عشر للانتخابات البرلمانية التي أجريت في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2007 وتم فيها انتخاب 110 نوّاب برلمانيين جدد. جرت عملية التصويت في بيئة تم وصفها من قبل محمد المصري، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية CSS في الجامعة الأردنية، بأنَّها "أزمة ثقة بين المواطنين والبرلمان". يثبت استطلاع أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية أنَّ ثمانين في المائة ممن استطلعت آراؤهم يعتقدون أنَّ النوّاب الذين انتخبوا في الفترة التشريعية السابقة قد ترشّحوا للانتخابات بسبب منفعة شخصية والرغبة في الحصول على ربح مادي.

بيد أنَّ انطباعاتي وتجاربي كانت إيجابية جدًا عندما كنت أتجوّل في طول البلاد وعرضها في فترة إجراء الانتخابات البرلمانية. أما ما شاهدته (وتمكّنت من تصويره بكاميرتي) فقد كان عددًا كبيرًا من المبادرات المحلية والنقاشات التي دارت في أماكن مختلفة مثل القرى الزراعية ومضارب البدو ومخيّمات اللاجئين ولكن كذلك في الأحياء السكنية. الناس الذين التقيتهم أثاروا دهشتي وإعجابي بصبرهم وثباتهم ورغبتهم في إيجاد تحسينات ملموسة في أوضاعهم المعيشية وبحثهم عن حلول بنّاءة - بالإضافة إلى استعدادهم لقطع مسافات طويلة سيرًا على الأقدام من أجل المشاركة في اجتماعات بلدية.

لكن على الرغم من ذلك كان من الممكن اكتشاف أزمة الثقة التي تم إثباتها من قبل محمد المصري. حتى وإن كان هناك اختلافات من منطقة إلى أخرى فإنَّ خيبة الأمل في السياسيين كانت منتشرة انتشارًا واسعًا وقد كان من الممكن مصادفتها في كلّ مكان؛ خيبة أمل الناخبين في ممثلي دوائرهم الانتخابية الذين تخلوا عنهم بعد الانتخابات بفترة قصيرة وانتقلوا إلى العاصمة عمان وحتى إنَّهم قاموا بتغيير أرقام هواتفهم المحمولة، لكي لا يتم العثور عليهم. وفي تلك الأثناء كانوا يزدادون ثراءً، بينما كان لا بد للناس الذين يفترض أنَّ هؤلاء النواب يمثّلونهم من تجاوز الغلاء الذي نجم عن إلغاء دعم الدولة لأسعار المحروقات.

إنَّ الأفلام التي كانت تثبت هذا المزيج المكوّن من الإحباط والأمل كانت حسب ما وجدتها ببساطة أكثر تأثيرًا من أن يتم استخدامها فقط لبحث علمي طويل الأمد؛ وهكذا قرّرت أن أفعل الشيء الوحيد الذي أستطيع فعله، من أجل إسماع صوت هؤلاء المواطنين الأردنيين. إذ بدأت بنشر الأفلام التي تصوّر النقاشات والحوارات العامة على الانترنت في موقع يوتيوب YouTube.

صوت يتم إسكاته

قمت بنشر أربعة من هذه الأفلام هناك، وذلك عندما شاع خبر مفاده أنَّ قناة راديو البلد الأردنية مُنعت من القيام بالتغطية الإعلامية للجلسات البرلمانية؛ وكان سبب ذلك أنَّ المذيع الذي يقرأ نشرة الأخبار الرئيسية قد أخطأ في قراءة تعليق لأحد المستمعين، اعتبره النواب المنتخبون أمرًا مهينًا لهم. بيد أنَّ هذه "الإهانة" لم تكن تنحصر في عبارات مهينة أو شتائم، بل في الإشارة إلى الفساد والإسراف الموجودين لدى النوّاب البرلمانيين.

وفي هذا الصدد لا بد من التنويه إلى أنَّ المقعد البرلماني من الممكن أن يدر أرباحًا كبيرة جدًا. فهكذا يحصل النائب البرلماني مدى الحياة على راتب شهري يبلغ ألفًا وخمسمائة دينار أردني (أي ما يزيد عن 1340 يورو). علمًا أنَّ الأجر الأدنى في الأردن لا يبلغ بالمقارنة مع رواتب النواب إلاَّ حوالي مائة وثلاثين يورو.

دينا دجاني، الصورة من جامعة لفوبورج
دجاني: "ما أن ينتخب البرلمانيون حتى يتناسوا وعدوهم الانتخابية"

​​غير أنَّ السلطات الأردنية لم تكن معنية كثيرًا بحرية التعبير عن الرأي أو بالتحقّق من مدى صحة التهم التي وجهها المستمع الذي اتصل بالإذاعة؛ فبدلاً عن ذلك يتم توجيه ضربات إلى المواطنين ووسائل الإعلام. إذ قام المسؤول في لجنة مراقبة الإعلام، بعدما تم منع قناة راديو البلد من القيام بالتغطية الإعلامية للجلسات البرلمانية بفترة وجيزة، بإحالة القائمين على هذه الإذاعة إلى التحقيق - بسبب "إهانة" البرلمان. وفضلاً عن ذلك تبيَّن أنَّ هذا الإجراء الذي قام به النواب البرلمانيون يضمنه قانون العقوبات الذي تنص مادته رقم 191 على أنَّ أيّة إهانة للبرلمان برمته أو لأحد النواب تعاقب بالحبس لفترة تتراوج بين ثلاثة أشهر وعامين.

لقد أشار الكاتب الصحفي والمدوِّن، باتر وردم إلى أنَّ البرلمان الأردني حال عدّة مرّات دون محاولة إلغاء فقرة خاصة في قانون الصحافة والمطبوعات الأردني، تسمح بسجن الصحفي على كلِّ ما يكتبه أو يذيعه. يعود الفضل في التمكّن في آخر المطاف من إقرار المادة الإضافية على القانون وتعديله فقط إلى المبادرات الشخصية التي أطلقها الملك عبد الله الثاني. لكن ربما يكمن الأمر الأجدر بالملاحظة في هذه "الإشارة بحد ذاتها"، التي ذكرها باتر وردم في بداية عموده اليومي في صحيفة الدستور والتي يتذكّر فيها أنَّ عليه أن "يعالج موضوع حرية التعبير عن الرأي بحذر شديد" فقط.

معضلة البرلمان

لم تكن الحرية السياسية في الأردن غير محدودة قطّ، بيد أنَّ الأمر المنافي للعقل في هذا الإجراء يكمن في أنَّ البرلمان المنتخب (وليس السلطة التنفيذية المتعجرفة أو دائرة المخابرات) يعمل على إرجاع الإصلاحات التي تم انتزاعها بصعوبة إلى الوراء. مثلما يعبّر عن ذلك مدوِّن أردني: "في الأردن أصبحت في هذه الأثناء أسوأ السيناريوهات هي الأكثر احتمالاً".

لقد جعلتني هذه الجدلية - وخاصة تعليق هذا المدوِّن - أفكِّر من جديد في أفلام الفيديو التي قمت بنشرها. ببساطة لقد شارك المواطنون الأردنيون الكرماء والودودون الذين التقيتهم وقمت بتصويرهم في الحياة السياسية في بلدهم وانتقدوا من خلال ذلك ممثّليهم؛ سلوكهم هذا جاء على نحو طبيعي باعتبارهم مواطنين بسطاء. لكن ماذا سيكون إذا عرَّضت هؤلاء الناس لخطر وذلك فقط لأنَّني قلت على سبيل المثال: "فورما يتم انتخاب النواب يتناسون كلَّ شخص وكلَّ الوعود التي قطعوها من قبل". لا شكّ في أنَّ أفلامي لم تكن أكثر إهانة من التعليق الذي أذاعته قناة راديو البلد، لكن بعد الذي حدث مع هذه القناة بدأت أقلق حقًا على العواقب التي يمكن أن تسفر عن قيامي بعرض أشخاص أردنيين يتصرفون كمواطنين طبيعيين.

لقد قضّ ذلك مضجعي لفترة من الزمن. اعتقدت من ناحية أنَّ آراء هؤلاء الناس تستحق أن يتم سماعها. لكن من ناحية أخرى لم أكن أريد بأيّ حال من الأحوال تعريض أمنهم وسلامتهم للخطر. وبما أنَّني لم أكن قادرة على اختيار واحد من بين هذين الاحتمالين، فعلت ما كان سيفعله أيّ شخص يبلغ من العمر 22 عامًا، حيث قمت باستشارة زوّار صفحتي الخاصة على الانترنت.

وردت الأجوبة في صورة تكاد تكون مجمع عليها؛ تطالبني بحذف الأفلام. كذلك كتب لي بعضهم أنَّني لم أقم فقط بتعريض الناس المصوّرين في الأفلام للخطر، بل عرّضت نفسي للخطر. كنت أنتظر ظهور تعليق يحضّني على نشر المزيد من هذه الأفلام، من أجل زيادة الاهتمام في موضوع الحرية السياسية هذا، بيد أنَّ انتظاري ذهب أدراج الرياح.

اعتذر راديو البلد عن هذا الحدث ووعد بـ"إعادة هيكلته وتنظيمه". وبعد ذلك ببضعة أيام قمت بحذف الأفلام من على موقع يوتيوب. من المؤسف أنَّ قصة الديموقراطية هذه لم تنتهي نهاية سعيدة - على الأقل حتى الآن.

دينا الدجاني
ترجمة: رائد الباش
Open Democracy / قنطرة 2008

قنطرة

رنا حسيني:
جرائم الشرف في الأردن
رنا حسيني تُقتل ثلاثون امرأة سنويا في الأردن لأنهن يتهمن بتلطيخ سمعة العائلة. المراسلة في المحاكم الأردنية رنا حسيني تقوم بتوثيق هذه القضايا وتسعى إلى خلق نقاش حول هذه الظاهرة في المجتمع الأردني. بترا تابيلينغ تعرفنا بها

اتحادات الصحفيين وفي العالم العربي:
هل تدعم الديموقراطية أم السلطة؟
تناولت الباحثة إينس براونة في كتابها الصادر أخيرا الدور الذي يلعبه اتحاد الصحفيين في الأردن ولبنان في دعم المجتمع المدني والدمقرطة. مراجعة يورغن إندرس.

الرقابة مستمرة:
الصحافة في الوطن العربي
رغم تطور الفضائيات والإنترنت في السنوات الماضية، إلا أن انتهاكات حرية الصحافة ما تزال ترتكب على نطاق واسع في مختلف الدول العربية. تقرير الصحفي الأردني فخري صالح.