الإسلام والكِماليّة في تركيا

نظرة إلى المشهد السياسي التركي الحالي يشير بوضوح إلى إمكانية التعايش بين الوسط الإسلامي مع الموروث اللائكي لمؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك. بكيم أغاي يتقصى طبيعة هذه العلاقة، كما يعرض تعامل الكمالية مع الإسلام

.

في التاسع عشر من أكتوبر/تشرين الأول 1923 تم الإعلان في أنقرة عن الجمهورية التي كان مصطفى كمال ( الذي سُمي فيما بعد بأتاتورك) رئيسها الأول. نظام دولة الخلافة قد تحول بموجب هذا الإعلان إلى دولة قومية لائكية بنظام حكومي جديد وتشريعات جديدة. وكان الإسلام يمثل في نظر الحداثيين الثوريين عائقا في طريق المرور إلى الجمهورية، لذلك تم حل النظام التعليمي للمدارس الدينية وتعويضه بمدارس لائكية ذات برامج تعليمية وطنية موحدة، وأغلقت مقرات التجمعات الدينية الشعبية.

الكمالية، اللائكية والإسلام في بدايات العهد الجمهوري

خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1933 و1948 لم تكن هناك أية إمكانية لتدريس ديني في تركيا، كما سنّت الدولة قوانين خاصة بالألبسة تعتمد فرض النمط اللباسي الأوروبي، وظل الحج إلى مكة محظورا لفترة ما بين 1934 و1947. أما الإصلاحات اللغوية وتدبّر صياغة تاريخ وطني فكانت موجهة لغاية تدعيم الهوية القومية التركية. ولم تكن فكرة ضرورة فرض هذا "المشروع الحضاري" حتى ضد الإرادة الشعبية تمثل تعبيرا عن ظاهرة "استبداد شرقي" بقدر ما كانت نابعة من بديهيات الفكر اليعقوبي لنخب ذلك الزمن.

الفهم الذي كان يرى إلى الإسلام كخطر ضمني يتهدد الدولة القومية الحديثة هو الذي طبع الكمالية في المرحلة الأولية التي تشكلت في تلك الفترة كإيديولوجيا. وقد غدت القومية التركية وإعلان الانحياز إلى الجمهورية اللائكية من السمات الأساسية المميزة للكمالية.

لكن ظاهر الأمور فقط هو الذي كان يوحي بأن لا مكان للإسلام داخل الكمالية. فالإسلام كمكونة ثقافية قومية قد لعب، وبما يشبه المفارقة، دورا محددا في تشكيل المشروع القومي. إذ عبر تفعيل الرابطة التي يكونها الإسلام فقط كان من الممكن التوصل إلى تشكيل أمة من الخليط الإثني المتنوع الذي يكوّن الجسد الذي كانت تقوم عليه الدولة العثمانية؛ أمة يتوحد داخلها كـ"أتراك" الأكراد والقفقاز والألبان والبوسنيون والتتر...إلخ

تحولات في النموذج الكمالي

بصرف النظر عن الإجراءات المناهضة للدين لبدايات العهد الجمهوري، ظل الإسلام محتفظا بمكانته المهمة داخل البلاد. وقد جاء تبني الديموقراطية في سنة 1946 حاملا لتحويرات قد أجريت على النموذج الكمالي. أصبحت اللائكية بدء من هذا التاريخ تعني تنظيم الحياة الدينية من طرف الدولة. وعن طريق مباشرة الدولة للمهام الدينية قد غدا على الدين أن يتجرد من كل طابع سياسي وأن يدمج ضمن المشروع المدني العام.

لم تفض السياسة القمعية التي كانت تمارس على الدين إلى حد ذلك التاريخ إلى إضعاف الروابط الدينية داخل المجتمع إذن، بل إنها دعمت مكانة سلطة روحية لم يكن للدولة من نفوذ عليها ولا تستطيع السيطرة على تكوينها.

واصلت الأحزاب البرجوازية في الفترة اللاحقة سياسة تتجاوب مع المتطلبات الدينية للشعب. ولم تكن "إعادة الأسلمة" حتى حدود أواخر السبعينات تتبع مفهوم يتوبيا سياسية إسلامية. وظلت المجموعات الإسلامية تساند أحزاب اليمين البرجوازية التي كانت مع ذلك تتابع على المستوى الحكومي سياسة رفض الدين.

الدولة اللائكية كمنشط ديني

هكذا تحولت الدولة الكمالية منذ الخمسينات إذن إلى عنصر نشط مهم داخل المشهد الديني للمجتمع. وباعتماد النظام الجمهوري أصبحت المسائل الدينية وممارسات الطقس الديني خاضعة لسلطة إدارة الشؤون الدينية (Diyanet Isleri Baskanligi ) أو ما يسمى اختزالا "ديانت". وكان على هيأة "ديانت" وفقا للطموحات الكمالية الساعية إلى بناء وحدة مجتمعية متناغمة، وطبقا لما ينص عليه الدستور، أن تؤمّن روابط الوحدة الوطنية.

وقد أصبح ما رافق هذه السياسة من بروز الإسلام السني كدين رسمي، تدعو من بين ما تدعو إليه إلى السياسة الحكومية، مفارقة من مفارقات نتائج الائكية التركية.
هذا الإسلام السني الرسمي هو ما يمثل القاعدة التي تصاغ على أساسها الدروس الدينية والتعليم الديني الذي تدعمه الحكومة. ولا يجد الإسلام العلوي من تمثيل له في هذا المضمار مع أن 20 إلى 30 بالمائة من الشعب من التابعين لهذا المذهب، وهو ما جعل الباحث الألماني غنتر زويفرت يخلص إلى هذه النتيجة:

"إن اللائكية التركية لا تمارس مطمحها العلماني عبر وضع الدين في وضع مواز للدولة وتنظيم علاقة الواحد بالآخر، بل عبر منح الدولة صلوحيات احتكار التأويل في المجال الديني وإدماج الحياة الدينية القانونية داخل النمط البيروقراطي."

الإسلام السياسي

كان الإسلام يمثل دوما جزء من برنامج أحزاب الوسط اليميني. في بداية السبعينات أسس نجم الدين أربكان مع ذلك حزب الإنقاذ الوطني(Milli Selamat Partisi ) من داخل الأوساط الدينية. ومن الدوائر المحيطة بهذا الحزب برزت أولى المجموعات الإسلامية التي تستقي توجهاتها من نماذج حكومية إسلامية من الخارج والتي لم يكن مبتغاها التوصل إلى مجتمع تركي أكثر إسلاما، بل كانت تريد نظاما حكوميا مغايرا.

أواخر الثمانينات وبداية التسعينات شهدت صعود حزب الإحسان-"رفاه" (Refah Partesi, RP ) لأربكان الذي بلغ قمة نجاحه مع كسب الانتخابات البرلمانية بتفوق طفيف في شهر يناير/كانون الثاني 1996. وقد نجح حزب "رفاه" كما لم يكتب لحزب من قبله في انتهاج سياسة مكنته من أن يدمج في سياسته الخاصة الشرائح الشعبية المتواضعة التي ليس لها من يمثلها في المسار السياسي للبلاد. لكن داخل القيادة الحزبية قد تشكلت بموجب أهداف أديولوجية مختلفة كتل سياسية متنوعة، وظهرت شخصيات قيادية ذات تأثير تطمح إلى تحقيق "نظام عادل" داخل دولة إسلامية.

وكان لتصريحات أربكان قبيل تسلمه مقاليد رئاسة الحكومة والتي أعرب فيها بصفة مفتوحة عن رفضه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي وصفه بـ"المؤامرة الصهيونية" أن قوبلت بموقف من الريبة. كما أن زيارته لكل من ليبيا وإيران في سفراته الأولى إلى الخارج كرئيس للوزراء قد مثلت انتهاكا لأولوية التوجه الغربي التقليدي لتركيا. وقد أثار أربكان باستفزازاته المقصودة المتنوعة حصول تحول في كيفية تقبل النخب الكمالية للإسلام.

بصفة مفتوحة جاء تدخل المؤسسة العسكرية تجاه سياسة حزب أربكان وأصدرت في 28 من فبراير 1997 مذكّرة تعلن فيها الإسلام السياسي خطرا أكبر يتهدد البلاد. وقد توج ما سمي بـ"محكمة 28 فبراير" باستقالة أربكان من منصب رئاسة الوزراء وحظر حزب الإحسان (ثم من بعده الحزب الذي خلفه في شهر جوان/حزيران 2001) وكذلك محاكمة العديد من رؤساء البلديات من أعضاء حزب Refah Partesi.

إلا أن سياسة الاستقطاب التي كان يمارسها أربكان كانت تمضي إلى أبعد مما يبتغيه أيضا بعض العناصر القيادية من حزبه. فهؤلاء "المجددون" (yenilikciler) قد سبق لهم منذ بداية التسعينات أن انتقدوا تمسك الحزب بفكرة حكومة الهيمنة الثقافية. من بين هؤلاء برز حزب العدالة والتنمية (AKP) الذي تأسس حول الزعيم رجب أردوغان رئيس بلدية وشيخ مدينة أسطنبول سابقا.

سياسة إسلامية جديدة؟

عندما حقق حزب العدالة والتنمية انتصارا ساحقا في الانتخابات البرلمانية ليوم 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2002 ساهم قانون حاجز الـ 10 بالمائة في جعل حزب AKP يحوز في توزيع المقاعد البرلمانية على أغلبية تعادل الثلثين، الأمر الذي وضع حدا لسنوات طويلة من التحالفات غير القارة التي عرفتها من قبل أحزاب أخرى لا تقل عنه قوة. وقد تقبلت أسواق الأسهم هذا الانتصار الانتخابي من جهتها تقبلا إيجابيا، وهو أمر يعود إلى محتوى البرنامج السياسي لحزب العدالة والتنمية.

عمد مؤسسوا حزب العدالة والتنمية الملتفين حول وزير الخارجية الحالي عبد الله غويل ورئيس الوزراء رجب أردوغان إلى إدماج الواقع الكمالي للبلاد ضمن سياستهم. وحزب العدالة والتنمية يصنف نفسه كحزب بورجوازي محافظ ويحب مقارنة نفسه بحزب المسيحيين الديموقراطيين الألماني. وخلال الحملة الانتخابية أعطى الحزب عن نفسه صورة من يمتلك حسا اقتصاديا وطالب بخصخصة المؤسسات الاقتصادية الحكومية وبمزيد من الديموقراطية ومشاركية أكثر في مجالات المجتمع المدني.

السياسة الأوروبية لحزب العدالة والتنمية

السياسة الأوروبية لحزب العدالة والتنمية التي تمس في العمق السياسة الداخلية ومفهوم الدولة هي التي كانت أكثر ما أثار دهشة العديد من الملاحظين، إذ هي لا تخضع لا لنمط تقاليد حزب "رفاه" ولا لأنموذج السياسة الكمالية التقليدية.

فبعد سنة ونصف من حكم حزب العدالة والتنمية قد أضحى نظام الحكم في تركيا أكثر أوروبية من أي وقت مضى. وقد صودق على العديد من القوانين التي تعتبر شروطا لا تنازل عنها بالنسبة للاتحاد الأوروبي، والتي تمس بنقاط جوهرية من مفهوم الحكم الكمالي.

وبعد محاولات سابقة عديدة أصبحت القنوات التلفزيونية الرسمية اليوم ولأول مرة تبث برامج باللغة الكردية. وغدت اللغة الكردية مسموحا بها في المؤسسات التعليمية أيضا، كما غدا جائزا اتخاذ أسماء كردية.

عرفت حرية المعتقد بدورها تحولا. فالرؤيا الكمالية مثلها مثل المفهوم الذي يقود حزب "رفاه" كانت تقيم الهوية التركية على أسس ثقافة تركية سنية للمواطنين. لذلك يعتبر الاعتراف القانوني بمساواة الطوائف الدينية الأخرى مع الاسلام السني علامة حاسمة على طريق التطورات. ولأول مرة تغدو التعددية في مجال السياسة اللغوية و الدينية لا أمرا مسموحا به فحسب، بل مضمونا قانونيا.

أما عن مسألة لماذا يعمد حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى القيام بهذه الاصلاحات عوضا عن مواصلة تطبيق سياسة أربكان، فإنه لا يمكن فهمها إلا على قاعدة خلفية التطورات التي عرفها الخطاب الإسلامي خلال السنوات العشر الأخيرة.

فشل الإسلام السياسي

لقد فشل الإسلام السياسي كإديولوجيا جماهيرية ثورية تنحى إلى التغيير الجذري المطلق. وقد ساهمت في هذا الفشل عوامل عدة: إحدى هذه العوامل هو أن حكومة أربكان لم تفلح في جعل الدولة أكثر إسلامية، بل عملت بكل بساطة على احتدام الأوضاع السياسية الداخلية بالبلاد. ثم تكفّل الرعب الإسلامي الموجه إلى الداخل بالبقيّة. وقد اثبتت عمليات سبر الآراء بأن عدد الذين يدافعون عن فكرة الشريعة كأساس قانوني قد عرف تقلصا واسع المدى.

إضافة إلى ذلك فإن الفئات الوسطى القريبة من أربكان قد حولت توجهها باتجاه رؤية أكثر برغماتية. فهذه الفئة لها اهتمام بأوروبا وليس بليبيا؛ أول زيارة خارجية قام بها أردوغان بعد تسلمه مقاليد الإدارة السياسية كانت إلى اليونان. لقد اتضح إذن أن رؤية أربكان القائمة على تقارب أكثر مع العالم العربي لم تبرهن على متانتها.

من العوامل ذات الأهمية المحددة هناك تلك التحولات الطارئة على مفهوم الحكم لدى مثقفين إسلاميين ذوي وزن وتأثير في المجتمع. إذ أن فكرة الدولة الإسلامية كانت فكرة طوباوية ترى أن المشكلة الجوهرية تتمثل في الاستيلاء على السلطة، وتكتفي في ما يخص ما سيحصل من تطور لاحق بمجرد الثقة في ديناميكية المنطق الداخلي للأديولوجيا التي تمثل قاعدتها المذهبية. إلا أن الواقع في بلدان إسلامية أخرى يشير إلى وجهات مغايرة.

لقد كان الجدال حادا حول مسألة الدولة الإسلامية أيضا. هكذا ينتقد الصحافي والمثقف الإسلامي علي بولاتش الدولة القومية في حد ذاتها ويعيب على المحاولات التي تمت إلى حد الآن من أجل قيام دولة إسلامية بأنها كانت كلها متجهة نحو تصور لدولة قومية شمولية وذات منحى تجانس ثقافي.

العديد من رجال السياسة الواقعيين يرون أنه على تركيا إما أن تصبح جزء من أوروبا الليبرالية ويكون عليها بالتالي وفقا لهذا المسار أن تقوم بإصلاحات تناسب متطلبات الحرية والنموذج الغربي، أو أن تظل دولة قومية تحظى بدعم الولايات المتحدة:

موقع أمامي مستقر في منطقة الشرق الأوسط ذا طابع يمكن اعتماده مثالا بالنسبة لدول من أمثال باكستان أو أفغانستان وتكون الأولوية فيه لمسألة الاستقرار على حساب الحقوق المواطنية. وعندما قدمت أوروبا سنة 1999 في هلسنكي عرضا صادقا لتركيا كانت الأغلبية آنذاك وبسبب هذا العرض لصالح الخيار الأوروبي.

حوصلة

عند التفكير في هذه المسائل على المرء أن يأخذ دوما بعين الاعتبار أن تحقيق مرامي قوى الاصلاح الإسلامية لا يمكنها أن تتكرس على أرض الواقع إلا داخل أفق إمكانية الانضمام الأوروبي وبدافع من مطالب الاتحاد.

وهناك تخوف مبرر من أن يقود فشل المداولات في هذا الشأن إلى عودة القوى التي تُعتبر أنها قد غدت متجاوزة حاليا- وليست تلك التي تنتمي إلى الأوساط الإسلامية فقط.

أما من جهة الكماليين فيجب أن يُرى إلى التجديدات الإسلامية على أنها تمثل نجاحا لفكرة الجمهورية التركية وليس كخطر بالدرجة الأولى. وإنه قد آن الأوان حاليا للكمالية أن تتلاءم مع الواقع السياسي إذا ما أرادت أن تمضي بمشروع مصطفى كمال إلى منتهاه، أي أن تمنح تركيا مكانة ثابتة داخل مجموعة الدول الأوروبية. إن شروط تصالح بين الخصوم التقليديين لهي الآن أفضل مما كانت عليه في أي وقت مضى.

بقلم بكيم أغاي، حقوق الطبع لدى بكيم أغاي، 2004
ترجمة علي مصباح

بكيم أغاي: درس التاريخ وعلم النفس والدراسات الإسلامية في جامعتي بون والقاهرة ويعمل حاليا أستاذا مساعدا في جامعة بون.