الشرق يحتضن الغرب موسيقيا

احتضنت مسقط في أواخر العام 2005 مهرجانا لعازفي العود استمر لثلاثة أيام و تميز بما أقامه من جسور بين الفن الموسيقي العربي والنظام الموسيقي الغربي. تم توثيق هذا المهرجان العربي الشامل للعزف الوتري في ألبوم من أربعة أقراص مدمجة. تقرير كتبه شتيفان فرانتسين.

​​

لِم تم اختيار عُمان بالذات والحال أنها بلاد لا تعرف في الغرب كمركز للموسيقى العربية؟ "لقد جاءت البادرة من السلطان قابوس بن سعيد شخصيا"، هذا ما يوضحه عصام الملاح المختص المصري في العلوم الموسيقية، مدرّس الأثنولوجيا في جامعة ميونخ، والمسؤول عن تنظيم وإنجاز هذا المهرجان.

السلطان قابوس يمثل حظا سعيدا بالنسبة لنا نحن العاملين في حقل العلوم الموسيقية، ولا أقول هذا من باب الدعاية السياسية، بل هي الوقائع هكذا: فعُمان التي كانت شبه قوة عالمية في مابين القرنين السادس عشر والتاسع عشر قد وجدت نفسها بعد ذلك في وضع من العزلة العالمية التامة.

ثم هاهو الشاب قابوس الذي كان قد تلقى تكوينه التعليمي في مدرسة بريطانية يعود إلى بلاده محملا بمشاريع اجتماعية جديدة كليا. على إثر ذلك أوقفه والده من المواصلة، لكنه نجح في تنظيم انقلاب عليه بمعونة رجال الجيش. ومنذ سنة 1970 ما فتئت جهود التقدم متواصلة في مجالات البنية التحتية والتربية والتعليم.

دون عوائق وإكراهات

لقد تمكن عصام الملاح في السنوات الأخيرة من العمل على تجميع مشهد متنوع للموسيقى العمانية يمضي من فرق الجاز إلى الأركسترات السمفونية والأوبرا التي أوجدت ا حياة ثقافية مثيرة سائدة في البلاد.

وبفضل وجود ممولين كرماء وتوفر مناخ من الحرية في الإعداد الفني للمهرجان وجد الملاح كل الظروف الملائمة لإنجاز عمله. فكيف استغل هذه الظروف كي يعطي مهرجان الآلات الوترية الذي لا يعدّ جديدا من نوعه في البلاد العربية هذا المنحى الخاص والمميز الذي اتخذه؟

"في المهرجنات المخصصة للعود والتي ظلت موجودة حتى الآن كان هناك دوما عدد من العازفين المنفردين المشهورين يُمنح كل واحد منهم حوالي نصف ساعة من العزف. لكن مخططي يذهب إلى أبعد من ذلك" يوضح الملاح.

"لقد قدمنا عروضا للعزف المنفرد الى جانب عروض يشترك فيها العزف بالأداء الغنائي أيضا. وكنت أرمي من وراء ذلك إلى جلب الانتباه مجددا إلى التقاليد الموسيقية القديمة. وإذا ما شاهدتم اليوم حفلا موسيقيا على شاشة التلفزيون فسترون أن هناك مغنيا يقف وراءه ما بين 60 و80 عازفا، والثلث من هؤلاء من ذوي الآلات الإيقاعية، وهكذا يتكون جو موسيقي شبيه بأجواء الديسكو. وعلاوة على ذلك دفعت بهذه الرؤيا الجديدة إلى الأمام وذلك بتقديم عروض للعود وللأركسترا السمفونية. وقد تم تكليف الموسيقار المصري عمار شريعي بتأليف أعمال جديدة. ومن خلال هذا التمازج تمكنا من إحياء تقاليد الموسيقية العربية، وفي الوقت نفسه من إنجاز انفتاح على المستقبل. والعود الذي يمثل الآلة المركزية في نظام الموسيقى العربية مؤهل أفضل من أية آلة لمثل هذا المزيج."

ألوان متنوعة من العزف على العود

كان الملاح بمشروعه هذا عارفا مسبقا بالرهان الذي أقدم عليه، ذلك أن كل العازفين تقريبا-باستثناء المغربي إدريس الشرايبي- غير معروفين في الغرب، وحتى داخل البلاد العربية كان بالإمكان العثور على عازفين ذوي شهرة وإشعاع أكبر.

لكن ذلك لم يكن مبتغاه على أية حال. كان على الفنانين الذين وقع عليهم الاختيار أن يستجيبوا للمعايير التالية أساسا: أن يكونوا عازفي عود ومغنّين في الآن نفسه، وأن يكونوا قادرين على الارتجال بحسب مقامات عديدة بما في ذلك تلك التي تعتمد النوتة الرباعية والتي غمرها النسيان في الآونة الأخيرة لصالح التقارب مع الموسيقى الغربية.

طريق خاص الى الطرب

لكن يظل الهدف الأساسي والمحوري في هذا كله بالنسبة للأستاذ المنظم هو إحداث الطرب. "والطرب هو حالة انفعالية تحتوي من بين ما تحتوي عليه مشاعر الحزن والألم، ويمكن بلوغ هذه الحالة عن طريق لون خاص من العزف وسلم نغمي ونماذج لحنية بعينها، لكن أيضا عن طريق نوعية محددة من النصوص المغناة."

يقول الملاّح. "فالعديد من العازفين مَن المواهب الماهرة الممتازة، لكنهم لا يستطيعون إثارة الطرب. وبالنهاية أردت أن أجمع تكوينة ممثلة تمتد من المغرب إلى عمان كي نبرز الوجوه المتعددة لأنماط العزف على العود داخل البلاد العربية: اللون المغربي الرقيق والمشحون بالأحاسيس حيث العود نفسه أصغر حجما، والطريقة الأكثر حيوية وتنوعا تقنيا للشرق الأدنى وشبه الجزيرة العربية."

أكيد أن الأذن الغربية لن يكون بوسعها أن تميز كل هذه الفوارق الدقيقة، وإن كان ألبوم "الطرب" الذي صدر عن enja records ليمنح المستمع فرصة للتمتع بما قدم في تلك الحفلات، قد أخذ بعين الاعتبار التلوينات النغمية المتنوعة بحسب المناطق الجغرافية.

عوالم نغمية شرقية غربية

الإنجاز اللحني لهذه العلاقة المتنوعة في أعمال الأركسترا خاصة يترك انطباعا مزدوجا: فبينما يبدو كونسيرتو الجهير لدى عطية شرارة(20 سنة) متعثرا وشبيها إلى حد ما بنغمة موسيقى عسكرية غير واثقة، فإن اللونين الغربي والشرقي يتداخلان ويتلاءمان بطريقة أكثر نجاعة في مقطوعات عمار شريعي، وإن كان التركيب الانتقائي لجمل من بيتهوفن وتشايكوفسكي فاغنر يستعرض نفسه بصفة مفتوحة.

الأثر الجانبي الإيجابي بالنسبة لعمان يتمثل في أن وجود الألبوم الثريّ في الأسواق الأوروبية سيساعد البلاد في مسار طموحاتها على كسب الأستاذ الملاح الذي يُعِد ذهنيا ومنذ الآن لحلقات أخرى من المهرجان، وله عروض من ألمانيا لإنجاز شيء شبيه بهذا العمل. وفي الأثناء ينظر الملاّح بارتياح لنتائج عمله على أية حال:

ثراء الواقع

"لقد نجحت في تحقيق الغرض الذي كنت أرمي إليه وهو إبراز الثراء الذي تنطوي عليه الموسيقى العربية في جوانبها المحترمة لا في جانبها ذي الطابع الشعبي الخفيف، الذي يحق له مع ذلك أن يكون متواجدا هو الآخر. وأنا أرى أن مهرجان العود بمسقط تثبيت لجزء من عمل تثقيفي توعوي لم أكن لأرغب في إنجازه من موقعي كأستاذ في جامعة ميونخ، بل على أرض الممارسة وبواسطة نغم حيّ. فهذا العمل أكثر نجاعة بطبيعة الحال وهو لا يستنفذ طاقاته في التوجيهات النظرية الجافة والخالية من محتوى ملموس.

بقلم شتيفان فرانتسن
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2006

قنطرة

عوالم الموسيقى
الموسيقى بوتقة يمتزج فيها الشرق والغرب والشمال والجنوب والحاضر والماضي. في الملف التالي نتناول تأثير السياسة والعولمة على الإبداع الموسيقي كما نقدم تجارب موسيقية من بلاد عربية وإفريقية وأوربية.