كرم الحلو. العلمانية والتباس مفهومها وتأويلاتها المتناقضة عربياً

لعل في مقدمة الإشكاليات التي تطاول العلمانية إشكالية المعنى. وفي ظل هذا الالتباس المفهومي، ذهب علي محافظة إلى أن الليبراليين العرب، بطرس البستاني، فرنسيس المراش، فرح أنطون وغيرهم، قد قلدوا الغرب تقليداً أعمى وتمسكوا بمبادئ العقلانية الغربية من دون مراجعة، فعادوا الدين واستهانوا به. ورأى في السياق ذاته أن فرح أنطون تأثر بالفكر الفرنسي الملحد وأن أحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وفرنسيس المراش وأديب اسحق ساروا في هذا الاتجاه العلموي العلماني. أما جلال أمين فرأى أن التنويريين العرب أخذوا مطلقات التنوير الغربية ونادوا بها كمطلقات، فعادوا واستهانوا بها.

 

 

لكن لو عاد محافظة إلى الليبراليين العرب الذين ذكرهم لأدرك أن هؤلاء لم يقلدوا الغرب تقليداً أعمى، بل إن نقدهم مساوئه الاجتماعية والأخلاقية وإدانتهم عيوب حضارته وأعطالها تميزا بالقسوة والجدية رغم انبهارهم بعمرانه وقيمه الليبرالية.

 

 

أما الاعتقاد بمعاداة النهضويين التنويريين للدين واستهانتهم به على ما رأى أمين، فبعيد كل البعد عن حقيقة أهدافهم ومراميهم، إذ إن هؤلاء لم يكونوا علمويين ملحدين، كما تصور محافظة وأمين، بل جل ما أرادوه هو فصل الدين عن السياسة وعدم استخدامه لأغراض ومصالح خصوصية، إضافة إلى حق الاجتهاد والتأويل، الأمر الذي بات مطلباً أساسياً من مطالب العلمانية المعاصرة، لا يتناقض في أي حال مع المسلمات الإيمانية. يؤكد استنتاجنا هذا، أن فارس الشدياق وفرنسيس المراش ينتميان إلى عائلتين عريقتين في التدين وأن بطرس البستاني كان قسيساً إنجيلياً.

 

 

ولو رجع النقّاد إلى كتابات التنويريين العرب بصدد الدين، لأدركوا أن هؤلاء، باستثناء شبلي الشميل، كانوا متدينين مؤمنين، وأن الإلحاد بصورة عامة كان غريباً عن فكر التنوير العربي، ولا يعدو شطحات عابرة في هذا الفكر، لا يلبث أصحابها أن يتراجعوا معتذرين، وإن دفع بعضهم أثماناً باهظة لتشبثهم بمواقفهم.

 

 

لقد جعل البستاني والمراش الدين دعامة أساسية من دعائم التمدن، ولاذ فرح أنطون بالمبادئ الدينية في الدفاع عن العدل الاجتماعي، وتوجه عداء الشدياق، رغم حدته، إلى رجال الدين واستبدادهم، لا إلى المبادئ الدينية والمسلّمات الإيمانية، المبادئ والمسلمات التي يجب أن تبقى في رأي التنويريين منزهة عن الغايات السياسية والأغراض الدنيوية. ولا يمكن بأي حال تفسير اعتقاد المراش بإمكان التوصل إلى معرفة الله من خلال التأمل في الطبيعة وقوانينها، أو انتقاد الشدياق رجال الدين، بالإلحاد. فالواقع أن القول بفصل الدين عن الدولة لم يكن يهدف الا إلى إزالة أسباب النزاعات الطائفية في مجتمع متعدد الدين والمذهب، ممزق بالصراعات الطائفية.

 

 

وثمة استنتاجات بصدد العلمانية لا تتفق مع حقيقة التفكير النهضوي، منها وفق محمد عابد الجابري ان شعار العلمانية طرحه في العالم العربي مفكرون مسيحيون من الشام، في ارتباط عضوي مع شعار الاستقلال عن الترك، ثم التقى الشعاران في شعار واحد، هو ما عُبّر عنه بتيار العروبة، ثم بالقومية العربية. وبما ان شعار العلمانية كان يعني قيام دولة عربية واحدة، فقد ارتبطت المفاهيم الثلاثة ببعضها ارتباطاً عضوياً: العلمانية والاستقلال والوحدة.

 

 

لكن هذا الاستنتاج يمثل رؤية واهمة لآلية التفكير النهضوي. فليس صحيحاً ولا واقعياً ربط شعار العلمانية بأية خلفية قومية، اذ عندما طرح المسيحيون الشوام فصل السياسة عن الدين، لم تكن القومية العربية قد وجدت بعد، وعندما وجدت لم تكن ذات تصور علماني، ولا قامت على المثقفين المسيحيين، ولم تكن هناك صلة بينها وبين الطوائف على نحو ضروري. يؤيدنا في هذا الاستنتاج ألبرت حوراني الذي رأى أن «الاعتقاد أن الناطقين بالضاد يشكلون أمة يجب ان تكون مستقلة ومتحدة، لم يتضح ويكتسب قوة الا في القرن العشرين». فبطرس البستاني كان يكتب كمواطن عثماني، ولم يكن في ما يقوله أي رغبة في التخلي عن الولاء للسلطان العثماني، بل انه كان يحظى في مجلته «الجنان» وفي مدرسته «الوطنية» بدعم العثمانيين ورعايتهم. ولعل هذا بالذات ما توصل اليه عزيز العظمة إذ رأى أن الجمع بين الوطنية السورية والمواطنة العثمانية، كان الطابع الغالب على المثقفين المسيحيين السوريين، وهو لا يختلف عن الطابع العام للعثمانيين الإصلاحيين من مديح للتنظيمات وللدستورية العثمانية.

 

 

ومن الأطروحات المتداولة أن العلمانية غير ذات موضوع في الإسلام، لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة، كما حصل في الغرب المسيحي. لكن هذه الأطروحة ساقطة، وفق جورج طرابيشي، لأن رجال الدين كانوا موجودين دائماً في الاسلام، وكان فيه سلطة دينية، بل إن هذه السلطة متضخمة الآن في المجتمعات العربية والاسلامية إلى حد تكاد معه تتحول إلى سلطة سياسية.

 

 

ومن الأطروحات المتداولة كذلك أن المفكرين الشوام فرّوا إلى القاهرة، وفق عبدالاله بلقزيز «في ضوء دفاعهم عن فكرة علمانية ضاق بها صدر دولة، كان فيها مركز الخلافة الاسلامية» بينما الحقيقة أن هؤلاء او أكثرهم انما فروا هرباً من استبداد زعماء طوائفهم وتكلسهم العقائدي، وليس بفضل ضيق صدر الدولة العثمانية التي كانت منها فئة متنورة قدمت الدعم لطلائع العلمانيين العرب.

 

 

ومن هذه الأطروحات أيضاً ان شعار العلمانية طرحه المسيحيون، لكن هذا الشعار رفعه ايضاً متنورون مسلمون بدءاً بالكواكبي وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وعلي عبد الرازق وطه حسين وزكي نجيب محمود انتهاءاً بمحمد اركون وعبدالله العروي وهاشم صالح.

 

 

ننتهي من خلال كل هذه الأطروحات والاستنتاجات الملتبسة والتأويلات المتناقضة إلى أن العلمانية، شأن كل المفاهيم الفلسفية والأيديولوجية في فكرنا العربي الحديث والمعاصر، في حاجة إلى قراءة من جديد، قراءة تاريخية متحررة من الأيديولوجيا ورهاناتها الواهمة وتأويلاتها غير الواقعية.