قتل المختلف أيا كان اختلافه

كيف نشأ التطرف الديني الذي قاد إلى هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001؟ الكاتبة اللبنانية علوية صبح توضح في هذا المقال لماذا لا يمكن للسلفيين المتطرفين الإدعاء بأنهم يتحدثون باسم الإسلام، وهي ترى أن ادعاء هؤلاء بأنهم يتكلمون باسم الإسلام يلحق أكبر الضرر بالعالم الإسلامي لا بالغرب.



فتحت اعتداءات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر الإرهابية بدايات القرن الواحد والعشرين على إشكالات جديدة من البربرية والممارسة العنصرية التي ينسجها الحقد والتعصّب، وكانت الحدث الإجرامي الدنيء الذي يشي بمعتقدات الأصوليين المتشددين وأساليب قتلهم وممارساتهم الدموية ونظرتهم الى الغرب، كما حملت دلالات وإشارات إدخالنا عصر الظلمات والمذابح ومتفجرات الإبادة لكل آخر مختلف في بلادنا.

وكان خُيّل إلينا أن هذا كان قد صار جزءاً من الماضي الغابر مع أفكار ومعتقدات وثورات القرن العشرين، وأشكال الأنظمة الليبرالية والديمقراطية التي اتُّبعت، واعتبار الإنسان أخ الإنسان. وكانت حدثت في بلادنا في القرن المنصرم، ونتيجة الانفتاح على الغرب، تيارات ثقافية تنويرية وتطلعات للحداثة في جميع ميادينها السياسية والثقافية والاجتماعية. إلا أن الخيبات والهزائم وانكسار المشروع التحديثي في عالمنا العربي والإسلامي وفشله وسقوطه على مختلف الصعد، قد ولّد مثل هذه الحركات، التي عادة ما تتكاثر في أزمنة الانحطاط، حيث يسود الجهل والخرافات في غياب العقل والعلم والثقافة وتصير المرجعية الوحيدة هي الدين. ويا ليت الدين، وإنما التعصّب والتيارات السلفية والتكفيرية وحيث العنف الغرائزي واستباحة الدماء، أيّ دماء للأبرياء، ما دامت دماء للآخر، أي آخر. كما تجدر الإشارة الى أن هذه التيارات السلفية والمتعصّبة قد انبثقت أيضاً من رحم الأنظمة السياسية القمعية والمتسلّطة على شعوبها مثلما وُلدت من عجز المشروع التنويري وفشله في أن يحوّل الحلم الى حقيقة.

كما أعتقد أن ظهور مثل هذه الأصوليات هو نتاج أزمة الفلسفة ومأزقها وغيابها في بلادنا (الفلسفة حرام، ولذلك لا تُدرّس في الجامعات والمدارس في العديد من الدول العربية والإسلامية)، كما استبدل الكثير من المثقفين مرجعيتهم في الفلسفة بالدين، فتغيرت الأفكار والمعتقدات واللغة. لقد استبدلت التيارات الأصولية مثلاً مفردات الصراع الاجتماعي بمفردات صراع ديني. فالمظلوم لم يعد الفقير، وإنما هو مظلوم بالمعنى الديني من ظالم هو الآخر. كما استُبدلت الدول الأمبريالية بعالم الاستكبار أيضاً. وقد تغيّرت كذلك مفاهيم الثقافة بالنسبة الى الأصوليين الذين كانوا علمانيين. هي لم تعد تلك المعنية بالمعرفة والأسئلة، وإنما بالأجوبة عبر الدين، والدين للمتطرفين مشكلة، لن يصنع مؤمناً يقبل بالآخر، وإنما عنصري وقاتل.


جواز هدر الدم في سبيل الجماعة المستضعفة

الصورة د ب ا
"يجب على المثقف أن يدافع عن الديمقراطية الليبرالية التي، على الرغم من كل أخطائها التي ارتكبها، لا تزال الجواب والضرورة والحاجة لأنها تعني التحقيق الذاتي الحضاري والتعددية السياسية والتعايش والتسامح وحقوق الإنسان"

​​


إن اعتداءات أيلول تشير إلى أن الأصوليات التكفيرية لا تعتبر أن الإنسان أخ الإنسان، فالغرب هو الآخر المسيحي والكافر والمستكبر، وحيث لا أحد بريئاً وإنما يجوز هدر الدم في سبيل الجماعة المستضعفة. ومرجعيته في التعامل مع هذا الآخر ليست الدين، بل الاستناد الى فرق ومذاهب وطوائف وجماعات متطرّفة سادت عبر التاريخ، يتّكلون عليها لتمييز الذات عن الآخر، والهوية عن الذوبان، لتصير هوية هذه الذات عنصرية وطائفية وإرهابية للآخر. الكثير من الجماعات الإسلامية وحتى أنظمة عربية مثلاً تعتبر الرسالة العمرية مرجعاً في التعامل مع المسيحيين الذين هم أهل ذمة بالنسبة إليهم وليسوا بمواطنين. ولنذكر هنا مثلاً بعض بنودها من نصارى الشام التي أرسلوها الى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وتعهدوا بها وعلى ضوئها كانت "العهدة العمرية".

"وشرطنا لكن على أنفسنا أن لا يحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي ما كان منها في خطط المسلمين ولا نعلّم أولادنا القرآن وأن نوقّر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا جلوساً ولا نتشبّه بهم في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلّم بكلامهم ولا نتكنّى بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلّد السيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية وأن نجزّ مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زيّنا حيثما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نُظهر صلبنا وكتبنا في شيء من طريق المسلمين ولا أسواقهم وأن لا نظهر الصلب على كنائسنا وأن لا نضرب بناقوس في كنائسنا بين حضرة المسلمين وأن لا نُخرج سعانينا ولا باعوثا ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا ولا نُظهر النيران معهم في شيء من طريق المسلمين ولا نجاورهم موتانا شرطنا لهم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عنهم الأمان فإن نحن خالفنا شيئاً مما شرطناه لكم فضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم ما يحل لكم من أهل المعاندة والشقاق".
أعتقد أن المشكلة ثقافية أكثر منها سياسية. المشكلة في الثقافة التي تُنتج مثل هذه الجماعات، وحيث المثقفون العلمانيون غارقون في أزمتهم وفي هامشيتهم وفي انفصامات الكثيرين منهم.
الغرب في الحركة الحداثوية التنويرية، التي سادت في القرن العشرين، كان الآخر المحاور والذي ترك تأثيره على الثقافة العقلانية والأدب والفنون والإبداع عموماً، لكن الغرب عند الإسلاميين المتشددين هو الكافر والمستكبر الذي يجب تفجيره وقتله.


كره الحياة والمرأة وتكفير كل شيء

الصورة د ب ا
"ضحاياهم في 11 أيلول/ سبتمبر شاهدة على عمل أقل ما يقال فيه إنه إرهابي ومجرم. وعلينا أن نفكر بخطرهم على العصر وعلى عالمنا وشعوب منطقتنا أيضاً."

​​

إنهم يكرهون ويحقدون على كل آخر، أكان الغرب أم أي جماعة لها معتقد آخر. يكرهون كل اختلاف أكان سياسياً أم ثقافياً أم عقائدياً. يكرهون الحياة والمرأة وكل ما هو جميل على الأرض، ويكفّرون كل شيء: الغرب والعلمانيين والفنانين والعقل وكل فكر إنساني، وهاجسهم قتل المختلف أياً كان اختلافه. معركتنا هنا أو في الغرب ضد كل الأصوليات المتشددة، ألى أي دين انتمى الواحد منهم، لأن المؤمن غير متعصّب وغير عنصري. بالنسبة إليهم الليبرالي والعلماني والمفكر والعاقل والفنان والمثقف والرسام والموسيقي والرياضي كلهم كافرون ونجسون. والجاسوس بالنسبة إليهم هو من يطالب بالمدنية وحرية المعتقد والعدالة والقوانين وحرية الأديان وحرية النفس والجسد، وكل من يفكر بالحياة فهو كافر. إنهم يعتبرون أنفسهم جنود الله الذين يفجّرون أنفسهم دفاعاً عن الحق، ودم الكفار يغسل الظلم الجماعي ويحقق الوصول الى الجنة. والغريب أنهم ما داموا يريدون الجنة فلماذا لا يتركون لنا الحياة؟ والتي يبدو أن كل همهم أن يجعلوها خاضعة لثقافة الموت وثقافة الخوف منها. وكل أهل الحياة بالنسبة إليهم كفار كما هم كفار أهل الحرية الفردية والعلمانية.

الحقيقة أنني أستغرب، ماداموا يكفّرون الغرب لماذا يذهبون إليه ويريدون أن يخرقوا فيه أنظمته العلمانية، بفرض قناعاتهم كمثل ارتداء النقاب والحجاب في فرنسا طالما القوانين مدنية وتمنع ذلك. غريب أمرهم. لماذا يقصدونه طالما هو كافر، متناسين أن مجتمعاته استقبلت جالياتهم الإسلامية وسمحت لهم بممارسة طقوسهم وشعائرهم وحمت دور عباداتهم. إذا كانت علمانية المجتمعات الغربية متهمة بالكفر، فلماذا يذهبون الى الغرب؟ يا للعجب! والعجيب أنهم لو استطاعوا أن يؤسلموا الهواء والطبيعة لما قصّروا، مثلما يريدون أسلمة الحياة وقوانينها الطبيعية وطرق عيشها بحجة الدين الإسلامي الذي هو منهم براء، فهو يعترف بالأديان السماوية ولا يكفّر الآخرين ويحرّم قتل النفس وتفجير الأبرياء. وفي الدين الإسلامي لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
والغريب أننا لم ننتبه لخطورتهم هنا على مجتمعاتنا قبل حادثة الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. والغريب أن ثمة تنظيمات متشددة في العالم العربي تطالب بإلغاء مواد الفنون والمسرح والتمثيل والموسيقى في الجامعات والمدارس، ومن يدري فقد يطالبون بعدم تدريس كل ما هو مبدع ومشرق في التراث من شعر أو من تراث الصوفيين العظيم.

إنهم عنصريون مشوّهون حاقدون غيورون ومرضى ووارثو العنصرية وثقافة الإبادات الجماعية في هذا العالم الذي يبدو أنه ذاهب الى مزيد من العنف والدماء والعنصرية، عالم تهبّ عليه تسونامي الكراهية من الأصوليين المتشددين وليس فقط تسونامي الأنهار والبحار والشمس وغضب الطبيعة. عالمنا مع هؤلاء الأصوليين والنزعات العنصرية الشديدة يشبه عودة أهل الكهف الذي خرج منه هؤلاء الموتى ويريدون أن يُدخلونا فيه لننام قروناً مثلما ناموا فيه. عالمنا يشهد يقظة الموتى الذين رقدوا في التراب لأكثر من ألف سنة، واستفاقوا من موتهم ليشطبوا من تاريخنا وحياتنا العقل وكل الأفكار الإنسانية والتنويرية.

ضحاياهم في 11 أيلول/ سبتمبر شاهدة على عمل أقل ما يقال فيه إنه إرهابي ومجرم. وعلينا أن نفكر بخطرهم على العصر وعلى عالمنا وشعوب منطقتنا أيضاً. ها هم يتكاثرون مثل السم والڤيروسات القاتلة. ضحاياهم في الجزائر واليمن والعراق والصومال وأفغانستان وباكستان وفي العديد من الدول تتكاثر. ذبحوا في الجزائر التلميذات الصغيرات في السن لمجرّد ارتدائهن ثياب رياضة، وهددوا بالقتل في الصومال كل من يشاهد المونديال لأن متابعة المباراة كفر ويجب قتل الكافرين. لقد قتلوا آلاف الأبرياء إن لم يكن أكثر في الجزائر والعراق ومن بينهم نخبة ثقافية وفكرية وفنية وأساتذة جامعات وأطباء وعلماء نفس ورياضيون، وكان هدفاً للموت بالنسبة إليهم كل من يعمل في حقول المجتمع المدني الحديث.
وكم ارتعبت وأنا أزور الجزائر مؤخراً حين أخبرني أحد الكتّاب الشباب أن أهله في الريف كانوا يدهنون رقابهم بالزيت قبل أن يناموا حتى لا يشعروا بألم السكين إذا جاء الأصوليون الإسلاميون وذبحوهم في الليل وهم غافون كما حدث لكثر غيرهم.

إن ما يشغل بالهم الفتاوى الدائمة وكلها بدع وبدع ضد العقل والمرأة التي أكثر ما يعنّفونها. والغريب أن جماعاتهم في الصومال مثلاً لا يفرضون النقاب فقط وإنما نوع القماش الذي يجب أن يكون خشناً لمزيد من الحشمة، والبيوت التي تضمّ نساء يجب عدم فتح شبابيكها نهائياً. والمخيف أن النساء يتماهين بصورتهن التي يرسمونها لهن نتيجة القمع والضعف، إذ لفتني أن النساء المنقّبات في اليمن يرفضن التصويت في الانتخابات لأن صوت المرأة عورة!


وأكثر ما يؤلم مشاهدة جَلْد النساء وضربهن. تناقلت القنوات التلفزيونية مشهد فتاة في السودان يجلدها بالسياط ثلاثة رجال ملتحين من الجماعات الإسلامية المتشددة بسبب ارتدائها البنطلون، كانت تصرخ بصوت مقلوب من الألم والوجع، وهي تفر مثل الدجاجة المفجوعة من واحد الى آخر، تمسك بأقدامهم تتوسلهم لوقف جلدها، لكنهم كانوا يتناوبون على ضربها بلا رحمة. المشهد نفسه نقلته القنوات التلفزيونية لفتاة أخرى باكستانية تجلدها مجموعة من الرجال بالسياط لارتدائها البنطلون أيضاً. أمام هذه المشاهد شعرت وكأنهم يجلدونني وتملّكتني الكوابيس لأيام، ملأني الغضب، وتساءلت بيني وبين نفسي أمام هذا المشهد عن معنى الحياة بلا حرية، ومعناها بوجود مثل هذا الظلم الفظيع مع هؤلاء المجانين والمعتوهين الذين يعدمون الحياة ويمسكون بزمامها.


المثقف في مواجهة القوى الظلامية

إن الفكر السلفي يعدم الحياة ومنطق التطور والحضارة ويلغي الصراع الاجتماعي الديمقراطي وحوار الثقافات وتلاقيها، ويستبدل ذلك بسلوك الحقد والإرهاب وتكفير كل آخر واستباحة القتل ودم الأبرياء، والأخطر اعتبار ذلك واجباً دينياً لدخول الجنة! ليس أمام المثقف المعني بالمعرفة والإنسان والحياة والجمال سوى المجابهة للقوى الظلامية، وليس أمام بلادنا المتعددة الاثنيات والمعتقدات سوى التمسّك بمشروع العلمنة وفصل الدين عن الدولة والقبول بالصيغ الديمقراطية العصرية بمعناها الإنساني والحضاري العميقين والعلمانية التي لا تعني عدم الإيمان، بل تعميقه عند القبول بالآخر، أياً يكن الآخر. الحوار مع الآخر والاعتراف به جزء لا يتجزأ من هوية أي ثقافة لأي شعب من الشعوب. فالهوية ليست كما يظنون شيئاً ماضوياً، وإنما شيء متحرّك باستمرار، كي يتحقق وجوده في الحاضر والمستقبل، وتتحقق ديناميته وفعاليته.

يجب على المثقف أن يدافع عن الديمقراطية الليبرالية التي، على الرغم من كل أخطائها التي ارتكبها، لا تزال الجواب والضرورة والحاجة لأنها تعني التحقيق الذاتي الحضاري والتعددية السياسية والتعايش والتسامح وحقوق الإنسان واحترام الآخر والتعبير والنقد والتناوب على السلطة، أي كل ما أخرجنا من الحياة المتوحشة وقرّبنا من الحياة الحلوة، الحياة التي لا نستحقها إلا باختراعها بالكتابة وبالقراءة عنها كما قال الكاتب ماريو بارغاس يوسا في كلمته أثناء تسلّمه جائزة نوبل هذا العام. وأن نواجه التعصّب القاتل والإرهاب الدنيء للآخر والجنون، فإننا بذلك ندافع عن ذواتنا وعن الإنسانية وحقنا في الحياة الجميلة، وحقنا في تحويل الحلم الى حقيقة.


علوية صبح

حقوق النشر: معهد غوته ومجلة فكر وفن 2011

كاتبة روائية لبنانية معروفة ترجمت روايتها "مريم الحكايا" مؤخرا إلى اللغة الألمانية.