عن الاستبداد والحرية والخيارات المرّة

موسى برهومة: كأنما قدر العربي أن يعيش بين خيارين مُرّين: الاستبداد أو الحرية. وكأنّ الخيارات الأخرى انعدمت؛ فإما أن تقبل بصدام حسين الذي حوّل العراق إلى سجن كبير لا يُسمع فيه صوت مخالف لأوامر "البعث" المقدسة، وإما أن تكون رهين الموت المجاني الذي يباغتك في كل لحظة وعند أي مفترق.

يستذكر الناس، الذين يستيقظون على صوت السيارات المفخخة والقنابل، أزمنة الاستبداد بشغف وحبور، ويتمنون في سرهم وجهرهم أن تعود، فلم تكن العراق في زمن صدام حسين كما هي الآن، والحال نفسه في ليبيا القذافي، ويمن علي عبد الله صالح، وتونس زين العابدين، ومصر مبارك. وربما يقول ذلك سوريون حزينون في حال رحل، غير مأسوف عليه، بشار الأسد.

 

 

كأنما قدر العربي أن يعيش بين خيارين مُرّين: الاستبداد أو الحرية. وكأنّ الخيارات الأخرى انعدمت؛ فإما أن تقبل بصدام حسين الذي حوّل العراق إلى سجن كبير لا يُسمع فيه صوت مخالف لأوامر "البعث" المقدسة، وإما أن تكون رهين الموت المجاني الذي يباغتك في كل لحظة وعند أي مفترق.

 

 

ومضت دول عدة لم تصبها لوثة التدمير إلى اعتماد سياسة وقائية تهدّد بها المخالفين والمعارضين وناقدي سياساتها، فتذكّرهم وتحرّض عليهم الدهماء بأنّ نقدهم سيقود بلادهم إلى الدمار والهلاك، وتلك فزّاعة ابتكرتها الأنظمة في أعقاب ما عُرف بـ "ثورات الربيع العربي".

 

 

ولئن أسهمت تلك الفزاعة، مؤقتاً، في قلب ظهر المجنّ من قبل الناس العاديين للمعارضة السياسية في بلادهم، إلا أنها لا تستطيع على المدى البعيد أن توقف قطار الزمن، ولا أن تعلن القطيعة مع فتوحات العقل السياسي الذي قال منذ قرون طويلة بإمكان عقد مصالحة بين ما يظنه كثيرون نقائض، ونعني بها: الحرية والأمن، الرفاهية والديموقراطية، التقدم الاقتصادي والكرامة، الانفتاح وحفظ الهوية... إلخ.

 

 

قليلة، بل نادرة تلك التجارب العربية التي واءمت بين هذه العناصر فنزعت منها فتيل التناقض المزعوم، كأنّ العقل العربي قائم على أحد عناصر الحدّية لهذه الثنائيات، وكأنّ شعار الحاكم العربي الأزلي: أنا أو الطوفان، أصبح شعار مرحلة طويلة بعد أن آنست الجماهير في هذا الشعار ما تصفه أمناً وأماناً. وثمة من ينبري للاستطراد في هذا الشعار فيفترض أنّ منتهى الأمنيات تتحقق إذ يذهب أبناؤه إلى المدارس ويعودون سالمين، وأن تخرج زوجته إلى السوق وتعود بلا خدوش أو جروح أو ثياب ممزقة، وأن يقفل باب البيت على عائلته آخر الليل ويناموا بلا كوابيس أو معاول لصوص!

 

 

ويظن عديدون أنّ تلك هي الحياة، بينما هي في الواقع شبيهة بالحياة الحقيقية التي تَعِد في حالاتها الطبيعية أن تبلور هذه الأمنيات وتتعهد بها، من دون أن ينتقص الهواء في رئتي الكائن، أو أن يبتلع لسانه، أو أن ينخرط في جموع المصفقين للبلاهة واغتيال العقل، وسوْق الحياة إلى المذبحة، أو المهزلة، لا فرق.

 

 

وأن يتحالف البشر والسلطة في هذه الرقعة الجغرافية الممتدة من الماء إلى الصحراء على إدامة الحال على ما هو عليه، وتأجيل المطالبة بحصة الهواء والماء والدواء والتعليم والكلام، فهذا إنما هو تدبيج لمرثية طويلة تُكتب أبياتها على مهل، كقطرات ماء متئدة في دورق كبير.

 

 

وبانتظار أن تكتمل المرثية، سيكون الموت قد ملأ الأرجاء، وأزكم الأنوف. ربما لا يكون هو ذاته الموت الذي نشاهده على الشاشة وسط الغبار والأشلاء المتناثرة، لكنه موت بليغ وحكيم وأعمق أثراً من حزّ الأعناق، وتمزيق الأضلاع وفقء العيون. إنه موت الإرادة، والقبول بالحدود الدنيا من العيش، ما دام الكائن رهن مصيره للشعار المخادع، واستعاض عن الحرية بالاستبداد، وتجرّع العلقم بصمت، لأنّ الصوت العالي قد يلوّث "جنة الأمن والأمان"!

 

 

 

 

 

 

 

 

* كاتب وأكاديمي أردني