العلمانية والإلحاد: رؤية مختلفة

Von خالد الدخيل

السائد في الثقافة العربية الإسلامية هو أن العلمانية بذاتها كفر وإلحاد، أو سبيل مباشر إلى هذا المآل. يقول بذلك أغلب علماء ومفكري الإسلام. وعلى رغم شيوع هذه الفكرة، وتجذرها مع الوقت، فإن السؤال يظل يفرض نفسه: هل العلمانية هي في حقيقتها كذلك؟ الغريب أن من يرونها كذلك يستندون إلى تاريخ التجربة العلمانية في الغرب وإلى ما كتبه مفكرو الغرب منذ العصر الأول للنهضة الأوروبية وحتى وقتنا الحاضر. هل صحيح أن هذه هي النتيجة الوحيدة أو الأهم التي يمكن أن يخرج بها كل من قرأ ما كتبه أولئك عن العلمانية قبل وبعد تبنيها وتطبيقها على أرض الواقع؟ هل يمكن أن من قرأ تجربة العلمانية من هذه الزاوية إنما قرأها انطلاقاً من تحيزه الأيديولوجي، ولم يقرأها بعين من ينظر إلى الأمور والأحداث والأفكار كما هي، وكما تعبر عن نفسها، وليس كما يراها هو، أو كما تبدو له؟ هذا سؤال مهم لأن النتيجة التي انتهى إليها الفكر الإسلامي حول هذه المسألة لا يمكن أن تكون نهائية، والأرجح أنها نتيجة مغلوطة لا تتفق مع طبيعة العلمانية وأهدافها، ولا مع مسارها التاريخي.

 

 

لننظر إلى ما قاله تشارلز تايلور، أحد أبرز من تناولوا مسألة العلمانية من بين المفكرين الغربيين، وذلك في ورقة له بعنوان معنى العلمانية، أو The Meaning of Secularism. لا يتناول تايلور العلمانية في هذه الورقة انطلاقاً من الإشكالية نفسها التي نطرحها هنا «العلمانية والإلحاد»، لكنه يقترب منها وإن في شكل غير مباشر. فالفرضية التي ينطلق منها في أغلب كتاباته عن الموضوع أن العلمانية من حيث أنها فصل للدولة عن مؤسسة الدين ليست في واقع الأمر موجهة ضد الدين بحد ذاته، أو أنها تستهدفه من دون سواه من التيارات الفكرية والثقافية التي يكتنفها المجتمع. صحيح أن العلمانية، كما يقول، في كل نماذجها الغربية الحديثة تقريباً تنطوي على نوع ما من فصل الدولة عن الكنيسة. وهو ما يعني أن الدولة لا يمكنها أن ترتبط رسمياً بأي معتقد ديني معين من دون سواه، باستثناء الارتباط الرمزي الذي لا وظيفة حقيقية له، كما في بريطانيا وإسكندينافيا. لكن العلمانية، يضيف تايلور، تتطلب ما هو أكثر من عملية الفصل هذه. فالتعددية التي ينطوي عليها المجتمع تتطلب نوعاً من الحياد من الدولة في علاقتها بكل المكونات المختلفة، دينية أو غيرها. وبالتالي فإن متطلبات العلمانية أكثر تعقيداً من حصرها في مسألة فصل الدولة عن مؤسسة الكنيسة.

 

 

يستخدم تايلور ثلاثية الثورة الفرنسية (الحرية، المساواة، الأخوة) كنموذج للحياد الذي استقرت عليه - نظرياً على الأقل - الدولة الحديثة إزاء مكونات المجتمع الذي يخضع لسلطتها. فالحرية تعني في ما تعنيه حرية المعتقد. والمساواة تعني عدم تفضيل رؤية عقدية على غيرها. والأخوة تعني الانفتاح على رؤى كل المعتقدات في المجتمع، والاستماع إليها. من هذه الزاوية تبدو صعوبة التعامل مع العلمانية في أن النموذج الذي سيطر على السجال حولها هو ذلك الذي يحصر دلالتها في علاقة الدولة بالدين. في حين أنه في حقيقة الأمر يشير إلى الاستجابة (الصحيحة) للدولة الديموقراطية أمام مسألة التعددية في المجتمع وكيفية التعامل معها. والمعنى المقصود بـ«حياد الدولة هو تحديداً تجنب تفضيل، أو عدم تفضيل، ليس فقط مواقف دينية، وإنما أي موقف مبدئي، دينياً كان أو غير ديني. لا يمكننا تفضيل المسيحية على الإسلام. في الوقت نفسه لا يمكننا تفضيل الدين على عدم الاعتقاد بدين، والعكس صحيح». وإذا كان أساس الدولة الحديثة يرتكز على حقوق الإنسان، والمساواة، وحكم القانون، والديموقراطية، فإن كل مكونات المجتمع تتفق مع هذا الأساس، وإن كان كل مكون ينطلق في اتفاقه من أسباب تعكس رؤيته لهذه المسألة. فاتفاق المسيحي يختلف في منطلقاته ومسبباته عن تلك التي يأخذ بها من يتبنى فلسفة إيمانويل كانت، مثلاً، وصاحب الفلسفة النفعية يختلف في ذلك أيضاً، كما المسلم... إلخ. بعبارة أخرى، يتفق الجميع على الأساس، ويختلفون في منطلقاتهم ومرئياتهم لضرورة هذا الأساس. ودور الدولة في هذه الحال هو دعم هذا الأساس مع عدم تفضيل رؤية معينة له يتبناها هذا المكون أو ذاك.

 

 

لماذا إذاً ارتبطت العلمانية حصرياً بمسألة علاقة الدين بالدولة؟ يرى تايلور أن هذا يعود إلى تاريخها في الغرب. ويضرب مثالين على ذلك من التاريخ الفرنسي والتاريخ الأميركي. سأقتصر لضرورة المساحة على الأخير. يورد تايلور مثال التعديل الأول للدستور الأميركي باعتبار أن له دلالة مهمة بالنسبة لهذه المسألة، خصوصاً لناحية كيف بدأ، وكيف انتهى. يقدم تايلور هنا معلومة مهمة، وهي أن مفردة «علمانية» لم تظهر في العقود الأولى من الحياة العامة الأميركية، ما يشير إلى أن هذه الإشكالية لم تكن قد فرضت نفسها آنذاك بعد. ومع ذلك فإن التعديل الأول يتعلق بفصل الكنيسة عن الدولة، ما فتح الباب أمام إمكان إعطاء الدين في الحياة السياسية الأميركية آنذاك (القرنين 18 و19) مكاناً لا يقبل به أحد في أيامنا هذه. يدلل على ذلك بمجادلة لأحد قضاة المحكمة العليا (اسمه جوزيف ستوري) في ثلاثينات القرن 19 يقول فيها: «بما أن التعديل الأول يحرم ربط هوية الحكومة الفيديرالية بأية كنيسة بعينها، وبما أن جميع الكنائس المعنية هنا مسيحية (بروتستانتية)، فإنه بإمكان أي أحد أن يستحضر المبادئ المسيحية لتفسير القانون (أو الدستور في هذه الحال)». بما أن هدف التعديل الدستوري الأول بالنسبة لهذا القاضي يقتصر على استبعاد التنافس بين المذاهب المسيحية، فإن «المسيحية يجب أن تحظى بتشجيع الدولة». لماذا؟ لأن هيمنة الإيمان المسيحي على الثقافة الأميركية آنذاك، توجب عدم الاستغناء عنه، في نظر هذا القاضي، لإدارة العدالة في المجتمع. بل إن حكماً صدر عن المحكمة العليا بالإجماع عام 1892 نص على أن الولايات المتحدة «أمة مسيحية». ويبدو أن هذا القرار صدر في خضم معركة اندلعت بعد العام 1870 بين أنصار هذا التيار، وآخر مناهض له، يطالب بالانفتاح على الأديان الأخرى وغيرها من التيارات غير الدينية. نعرف الآن أن التيار الأخير هو الذي انتصر في نهاية المطاف.

 

 

ما هي الدلالة التي ينطوي عليها هذا المثال التاريخي؟ أولاً أن التعديل الدستوري لم ينص على فصل الدين عن الدولة، وإنما فصل الدولة عن الكنيسة، أي فصل مؤسسة دنيوية عن أخرى دينية. ثانياً أنه صدر في ظل هيمنة مسيحية بكنائس متعددة، وكان هدفه ضمان حياد الدولة أمام هيمنة هذه المكونات الدينية للمجتمع. وهذا بحد ذاته دليل على أن عملية الفصل كانت استجابة للتعددية بالصيغة التي كانت عليها آنذاك، ولم تكن موجهة للدين بحد ذاته، أو تعبيراً عن توجه إلحادي معاد للدين. بعد ذلك فرض تطور المجتمع الأميركي اتساع دائرة التعددية لتشمل أدياناً ومذاهب أخرى (الكاثوليكية، واليهودية ثم الإسلام، وغير ذلك كثير)، لتصبح مشمولة بمنطق التعديل ذاته، أو الحياد ولو من الناحية القانونية، وليس دائماً من الناحيتين الثقافية والسياسية. أصبح من الممكن أن يكون هناك رئيس أميركي كاثوليكي، وتحسنت هذه الفرصة بالنسبة للمكون اليهودي، لكن ليس للمكون المسلم بعد. ولعل الدلالة الأهم لتاريخ التعديل الدستوري الأول وما استقر عليه حتى الآن أن العلمانية في حقيقتها ليست أيديولوجيا، أو عقيدة في مقابل أيديولوجيا أخرى. استوعب التعديل في بدايته مكونات المذهب البروتستانتي كمكون مهيمن. ثم استوعب كل ما استجد من مكونات تبعاً لنمو وتطور المجتمع الأميركي. وهذا يعني أنه لو كان المنطلق العلماني للتعديل منطلقاً أيديولوجياً لما كان في وسعه استيعاب كل التيارات السياسية والأيديولوجية التي جاءت بعد تدشينه بأكثر من قرن ونصف القرن. في هذا الإطار أصبح المسيحي علمانياً، وكذلك اليهودي والمسلم والليبرالي والاشتراكي... إلخ. وبما أن العلمانية ليست أيديولوجيا، فإنها لا يمكن أن تعني الإلحاد، لأن الأخير موقف فكري أيديولوجي. إذا لم تكن العلمانية أيديولوجيا، فماذا عساها أن تكون؟ هي آلية دستورية لتحييد الدولة لتمكينها من إدارة التعددية في المجتمع بهدف تحقيق المساواة والعدالة وحكم القانون للجميع. ولهذا حديث آخر.