عسكرة الاقتصاد تعيق النهضة الشاملة

تشهد الجزائر في الوقت الحاضر ازدهارا اقتصاديًا لم تعشه من قبل، وذلك لأنَّ سعر النفط المرتفع يعود على ميزانية الدولة بالمليارات. ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ هذا الانفراج المالي لا يشكِّل انتعاشًا في اقتصاد البلد بقدر ما يزيد من ثروات النخب السياسية في الجزائر. تحليل من فيرنر روف.

صورة رمزية للرئيس الحزائري بوتفليقه، الصورة: أ.ب
الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقه تولى الحكم في عام 1999.

​​لقد أدَّى الارتفاع السريع في أسعار النفط والغاز إلى خفض ديون الجزائر الكبيرة لدى دول الخارج تقريبًا إلى الصفر؛ فقد حققت صادرات الجزائر في عام 2006 رقمًا قياسيًا بلغ 52 مليار دولار أمريكي - بارتفاع بلغت نسبته 14 في المائة مقابل العام السابق. غير أنَّ الارتفاع الحقيقي لأسعار النفط بدأ فقط في عام 2007 وما يزال منذ ذلك يواصل ارتفاعه على قدم وساق.

بيد أنَّ هذه الأرقام ليست مؤشِّرات على وجود ازدهار اقتصادي، لكنَّها تبيِّن أنَّ صادرات الطاقة تشكِّل العامل الاقتصادي الوحيد في الجزائر. وتقابل هذه الصادرات حقيقة مفادها أنَّ الجزائر تضطر إلى استيراد جميع احتياجاتها تقريبًا من الحبوب والحليب والأدوية.

نتائج الاقتصاد الريعي

منشأة نفطية جزائرية، الصورة: أ.ب
على الرغم من مساهمة ارتفاع أسعار النفط في زيادة مدخولات الجزائر، إلا أنها زادت من اعتمادها على استيراد الكثير من البضائع الغذائية والاستهلاكية.

​​إنَّ مجرَّد ارتفاع أسعار المواد الغذائية يشكِّل بالنسبة للشعب الجزائري، الذي يزداد عدده بشكل سريع، تهديدًا بخطر استنزاف الإيرادات الحاصلة من ارتفاع أسعار النفط. والأسوأ من ذلك أسعار صرف الدولار مقابل اليورو.

إذ تزداد أكثر أسعار أغلب المواد الغذائية الأساسية والبضائع الاستهلاكية طويلة العمر المستوردة من المناطق التي تتعامل باليورو، وذلك نظرًا إلى تواصل ازدياد الفرق بين سعر صرف الدولار مقابل اليورو، بشكل دفع المراقبين لوضع توقعات في أن يصل سعر اليورو الواحد إلى دولارين خلال المستقبل المنظور. ومن بين هذه الواردات المستوردة من أوروبا أيضًا المائتان ألف مركبة التي استوردتها الجزائر عام 2007.

وهذه الأرقام وحدها تبرز المشكلة البنيوية في الاقتصاد الجزائري؛ إذ لا تعتمد الدولة والمجتمع إلاَّ على الصادرات النفطية - أي على الاقتصاد الريعي. وتتراجع الأرقام منذ عدَّة أعوام بقدر ما يتم على الإطلاق إنتاج منتجات محلية في البلاد.

ويتطابق انعدام وجود اقتصاد دينامي مع البطالة المتفاقمة باستمرار والتي يقال رسميًا إنَّ نسبتها تبلغ ثلاثين في المائة، بينما يمكن أن تصل في الحقيقة على الأقلّ إلى خمسين في المائة. تصيب هذه البطالة قبل كلِّ شيء الشباب وكذلك أعداد متزايدة زيادة سريعة من خريجي الجامعات والمعاهد العليا.

تنظيم المدن العشوائي وأعمال شغب

يشجِّع إهمال الزراعة على الانتقال، الذي يتم على كلِّ حال بأعداد كبيرة من المناطق الريفية إلى المدن، كما أنَّ تنظيم المدن العشوائي صار يضجّ في داخله بأحياء صفيح تتَّسع اتِّساعًا لا ينتهي في قصبة الجزائر (المدينة القديمة)، حيث يقيم حتى ثمانية عشر شخصًا على مساحة عشرين مترًا مربَّعًا. والآن يعيش ثمانون في المائة من كلِّ الجزائريين في "مدن".

مدينة الجزائر القديمة، الصورة: بيكتشر إليانتس
يدفع البحث عن فرصة للعمل الكثير من الجزائريين إلى هجرة الريف والتوجه إلى المدن، لكنهم يشكلون عبئا على البنية التحتية.

​​إنَّ الخوف من حدوث أعمال شغب واحتجاجات داخل المجتمع ومن المجموعات الإرهابية التي نشطت مؤخرًا يُجبر الحكومة على الاستمرار في دعم المواد الغذائية الأساسية بمبالغ كبيرة. وتؤدي سياسة دعم المواد الغذائية هذه في الوقت نفسه إلى فقدان إنتاج المواد الغذائية داخل البلاد لجاذبيتها باستمرار وإلى مواصلة التشجيع على الانتقال من المناطق الريفية إلى "المدن".

ولكن مع ذلك تقع في كلِّ يوم تقريبًا في أماكن مختلفة من الجزائر أعمال عنف يتم فيها إغلاق شوارع ونهب بعض المباني الحكومية بالإضافة إلى إضرام النار فيها. ثم تؤدِّي الإجراءات التي تتخذها الشرطة التي غالبًا ما تكون وحشية إلى تصعيد الأوضاع التي تكاد تشبه الحرب الأهلية، مثلما حدث في شهر أيار/مايو من هذا العام في وهران، ثاني أكبر مدينة جزائرية حيث قام فتية وشباب طيلة ثلاثة أيام بأعمال سلب ونهب.

أو قبل ذلك بفترة قصيرة في منطقة بريان الجزائرية الجنوبية، حيث امتدَّت أحداث الشغب لأكثر من أسبوع. وتشكِّل محاولات الهرب عبر البحر الأبيض المتوسط وقبل كلِّ شيء إلى إسبانيا طريقًا آخر للهروب من الفقر المتفشي في البلاد. ففي كلِّ يوم تقريبًا تنشر الصحافة الجزائرية أخبارًا عن انتشال جثث فتية وشباب غرقوا أثناء محاولتهم اجتياز البحر.

التسلّح بدلاً من برامج الإصلاح

صحيح أنَّ الحكومة الجزائرية تعلن مرارًا وتكرارًا عن القيام بإصلاحات وتَعِدُ بتحسين البنية التحتية وبتوسيع برامج بناء المساكن وبدعم قطاع السياحة، لكن على أرض الواقع لا يحدث أي شيء من ذلك. وبدلاً من ذلك تعقد الحكومة الجزائرية صفقات هائلة لشراء السلاح.

إذ عقدت فقط مع روسيا في العام الماضي اتفاقية لشراء أجهزة ومعدَّات حربية، خاصة طائرات من طراز ميغ MIG 29 بقيمة ثمانية مليارات دولار أمريكي. ومن ناحية أخرى هناك تعاون وثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تجري معها الجزائر - وكذلك مع حلف الناتو - مناورات بحرية مشتركة.

فيرنر روف، الصورة: بريسه
فيرنر روف خبير في الشؤون الجزائرية وعالم سياسي وباحث مختص بشؤون السلام، عمل حتى عام 2003 أستاذًا جامعيًا في جامعة كاسل.

​​كما تتعاون الجزائر في إطار ما يسمى بمحاربة الإرهاب في إفريقيا مع الولايات المتحدة الأمريكية: فقد شاركت الجزائر وبمشاركة الدول الأخرى الواقعة على الصحراء الكبرى في عام 2005 في عملية "فلينتلوك"، أي المرحلة التحضيرية لإقامة قاعدة قيادة عليا أمريكية جديدة لأفريقيا (أفريكوم)، كما تشير إشاعات متواترة إلى وجود قاعدة أمريكية في ولاية تمنراست الجزائرية غير البعيدة عن حدود الجزائر الجنوبية.

وفضلاً عن ذلك فإنَّ الجزائر تطوِّر منذ بضعة أعوام مفاعلاً ذرِّيًا، تتعاون في تطويره بصورة وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ولذلك فإنَّ الجزائر لا تخشى من تعرّضها لانتقادات غربية.

آثار دموية من الحرب الأهلية

يبدو أنَّ "السنين الدموية" قد ولَّت وانقضت إلى الأبد؛ تلك السنين التي وقعت فيها المذابح الكبيرة وخاصة في منتصف التسعينيات. إذ تم تقديم الضمانات بالعفو عن "الإرهابيين"، الذين سلَّموا أنفسهم، وفي الوقت نفسه تم استثناء التابعين للقوات المسلحة وأجهزة المخابرات من الملاحقات القضائية، وبذلك يبقى مصير "المفقودين" - الذين يبلغ عددهم أكثر من عشرة آلاف شخص - مجهولاً إلى الأبد.

ملصقات دعائية انتخابية، الصورة: أ.ب
صحيح أن الجزائريون ينتخبون برلمانهم، لكن الكلمة الحسم في النهاية للجنرالات.

​​ولكن مع ذلك تحدث مرارًا وتكرارًا أعمال عنف بعضها شديدة، مثل الاعتداء الذي وقع في الحادي عشر من كانون الأول/ديسمبر 2007 على مقر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP في العاصمة الجزائر وقتل فيه ما لا يقل عن واحد وأربعين شخصًا. وتتيح هذه الإشارة إلى "بقايا الإرهاب" المجال للمحافظة على القوانين العرفية التي تم فرضها في عام 1992.

إنَّ دور البرلمان المنتخب انتخابًا حرًا يبدو في ظلِّ هذه الظروف وبسبب الدستور الذي يجري العمل به حاليًا أقرب إلى الصوري، فهو لا يمتلك أية سلطات رقابية تجاه حكومة. وصحيح أنَّ هذه الحكومة تدير شؤون الدولة، لكن قيادة الجيش تتَّخذ من خلفها القرارات المهمة.

سلطة الجنرالات

وهكذا يطرح السؤال نفسه عما إذا كان التخلف الاقتصادي المستمر والمتفاقم، بالإضافة إلى انتشار الفساد الإداري ينجمان عن عجز الحكومة وتقصيرها أم أنَّ خلف ذلك سياسة مُتعمَّدة؟

إذ يستغل المستوردون القليلون الحاصلون على تراخيص استيراد والذين تربط معظمهم علاقات وثيقة بحاشية الجنرالات وكبار الموظَّفين المختصين بدراسة منح القروض قصيرة الأجل لتمويل الواردات، هذه الوظيفة من أجل الحصول على الرشاوى المالية والعمولات أو من أجل تنظيم النقص المفتعل في المواد الغذائية ولكي يملأوا من خلال ذلك جيوبهم الخاصة ببعض المبالغ الكبيرة. تشكِّل المحافظة على الاقتصاد الريعي بالإضافة إلى الفرص، التي تمكِّن البعض القليلين من جمع ثروات غير متناهية، جزءً من نظام يبدو أنَّ تغييره لا يصب إلا في مصلحة "صانعي القرار".

فيرنر روف
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2008

فيرنر روف: خبير في الشؤون الجزائرية وعالم سياسي وباحث مختص بشؤون السلام، عمل حتى عام 2003 أستاذًا جامعيًا في جامعة كاسل.

قنطرة
تجارب الأسلحة الذرِّية الفرنسية:
نفايات وأضرار ذرية قديمة في الصحراء الجزائرية
لم تقم فرنسا بإجراء تجارب على الأسلحة الذرِّية في جنوب المحيط الهادي فقط، بل كذلك في مستعمرتها السابقة الجزائر. ومع ذلك لا تزال باريس تعارض حتَّى يومنا هذا احتجاجات الضحايا القضائية على الأضرار التي لحقت بهم. تقرير كتبه برنهارد شميد.

تجارب دول المغرب العربي مع الأحزاب الإسلاموية:
ترويض الإسلامويين من خلال إشراكهم بالحياة السياسية
يمثل الإسلامويون جزءا هاما من مجتمعات بلادهم. إبعادهم عن المشاركة في الحياة السياسية سيكون على المدى البعيد وخيم العواقب، حيث سينجم عن ذلك جمود إصلاحي وما يترتب عليه من ظهور طاقات نزاعية، كما تبين إزابيل فيرينفيلس في تحليلها التالي.

العنف الإسلامي في الجزائر:
مكافحة الإرهاب بين المصالح الأوربية وتبادل الاتهامات
طلبت الحكومة الجزائرية مرارا من الاتحاد الأوروبي إدراج مجموعتين إسلاميتين أصوليتين جزائريتين في "لائحة المنظمات الإرهابية". لكن رغم موافقة الاتحاد الأوروبي على ذلك، إلا أنه لم يقم حتى الآن بأية خطوة ملموسة. بيرنهارد شميد عن الخلفيات.