هذا النذل ليس نذلاً - لأنه يتعامل معي

الوصول إلى تسوية مع الغرب يعد مكسبا كبيرا لنظام الحكم في طهران الذي فقد دعم غالبية شعبه، حسب رأي الكاتب والصحفي نفيد كرماني الذي يقدم تحليلا للسياسة الأوربية والأمريكية تجاه إيران والشرق الأوسط.

شباب إيران منفتح ومن الصعب قمعه ثانية، الصورة: ماركوس كيرشغيسنر
شباب إيران منفتح ومن الصعب قمعه ثانية!

​​

عندما يسعى السياسيون الأوربيون الخارجيون إلى ضمان مكانتهم التاريخية العالمية، فهم يتحدثون في هذه الأيام عن إيران. يقول على سبيل المثال وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر عن طيب خاطر، إن الأيدي تتصافح، وعندما يُسأل عن وضع المحادثات مع طهران فيما يخص برنامجها النووي، يرفع حاجبيه بوقار: لا يتحتم عليكم الآن إلاّ أن تتصافحوا.

وإذا تحققت هذه المصافحة، فيجب علينا أن نفهم، أن الاتحاد الأوروبي المهذب قدّم للولايات المتحدة الأمريكية العظيمة كيفية جعل العالم أكثر أمنًا: وذلك عن طريق الحوار وليس عن طريق الحرب. بيد أن حكومة جورج بوش تُبقي خيار الحرب مفتوحًا - مثلما هو شائع.

إذن فهل الأدوار موزعة بهذا الوضوح، مثلما كانت تبدوا في النزاع مع العراق، مع الفرق الوحيد، وهو أن ملاك السلام الأوروبي ربما سيتمكن هذه المرة من منع رامبو الأمريكي من خوض الحرب، حتى يطلق حوله الرصاص؟

لا، لقد كان ذلك الهزل، على ما كان سائدًا لدى الرأي العام الأوروبي، متعالٍ جدًا إبان النزاع حول العراق. ولكنه سيتحول الآن إلى مخادعة للذات.

أين البديل الأوربي؟

في العراق لا تتحمل الولايات المتحدة فقط المسؤولية، من خلال خوضها حربًا بحجج كاذبة، وبتخطيط غير كاف ومن دون تدابير ضرورية، ليس فقط في إخضاعها كل أصقاع الدولة تحت سيطرتها، إنما كذلك في إدارتها في النهاية. لقد فشلت أوروبا أيضا في أزمة العراق.

لم تكن السياسة الأوروبية الخارجية بالإضافة إلى الرأي العام المناهض للحرب، قادرة على إيجاد بديل للسياسة الأمريكية. ولكن لو أصغت الولايات المتحدة للاحتجاجات الأوروبية، لبقي صدام حسين حاكمًا حتى الآن في بغداد، ولكان الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق سيودي في هذا الشهر أيضًا بحياة آلاف الأطفال العراقيين.

لقد كان الأجدر بالأوروبيين أن يفكروا بالطريقة التي يمكن من خلالها الإطاحة بالمستبدين، من دون أن تقع البلاد في الهاوية، بدلاً من أن يوجهوا التهم إلى الولايات المتحدة بأنها تخوض الحرب ضد هؤلاء المستبدين.

أما الآن فإن الخصمين على ضفتي الأطلسي يدّعيان بأنهما تعلما من المصيبة في العراق. وأمسك الاتحاد الأوروبي في الأزمة الدائرة حول برنامج إيران النووي بزمام المبادرة، من أجل الحيلولة دون التصعيد العسكري في وقت مبكر.

ولكن يبدو أن رغبة الولايات المتحدة في التفرد قد تلاشت. وحتى إذا فشلت المحادثات بين طهران وبروكسل، فلن تلجأ حكومة بوش إلى ضربة عسكرية، إنما ستعرض هذه المعضلة على الأمم المتحدة، التي بقيت تعتبرها قبل فترة وجيزة مجرد حلقة لشرب القهوة. كما أن حكومات طرفي الأطلسي ليست متفقة فحسب في تقدير الخطر؛ فمن الملحوظ أنها تنسّق فيما بينها. وهذا يخلق الأمل للعلاقات الأطلسية. لكن ليس لإيران.

رفع الأسعار

توقفت في إيران عملية الإصلاح منذ فترة طويلة. كما زُج بالعديد من المعارضين في السجون، أما الصحافة التي كانت قبل ذلك مفعمة النشاط فقد قُمعت، بينما أعادت العدالة اكتشاف الرجم كحكم جزائي. وفي المجلس النيابي يتمتع المحافظون بالأغلبية.

لكن في أوروبا لا يُلاحظ هذا التطور. والسياسة الخارجية الأوروبية تعمل على هذا النحو، كأنها لازالت تحمي الزهرة الإيرانية الغضة من وطأة الحذاء الأمريكي. لقد كان دعم الإصلاحات في إيران صحيحًا. لكن إن استمرت أوروبا في اقترابها من طهران، رغم أن الإصلاحات غير موجودة بعد، فإنها ستفقد كل مصداقية.

ومع فشل عملية الإصلاح، ألغيت آخر الأسس الأخلاقية والدينية والاجتماعية التي اعتمد عليها النظام. كما أنه لا يمكن إخضاع النساء الواثقات بأنفسهن، والشباب المنفتح على العالم وحركات التنوير في الفكر الديني أو عولمة الشعب لأي حكم استبدادي ثانية.

تفاوت كبير في الدخل

بيد أن التوترات الاجتماعية تزداد زيادة لا يردعها رادع أيضًا - فقد أصبحت حاليًا إيران الثورية بصورة خاصة، تعد على المستوى العالمي في عداد الدول ذات التفاوتات الكبرى في الدخل. وفيما بين صار يعيش أربعون بالمائة من الشعب تحت خط الفقر - طبقًا لمعلومات رسمية.

يضاف إلى ذلك تفشي الفساد والانتشار الوبائي للمخدرات، وأذكر هاتين النقطتين فقط من بين الكثير من النقاط الأخرى. ويبدو أنه من المستبعد تخطي المشاكل الكبيرة التي تواجهها البلاد في الداخل، أو التحديات السياسية الخارجية في الشرق الأدنى الجديد في إطار النظام السياسي القائم.

والنظام يعرف هذا خير معرفة. وفي عزلته عن شعبه التي لم يسبق لها مثيل، يرى الإمكانية الوحيدة من أجل المحافظة على الحكم على الأقل في كسر العزلة مع الخارج. تعد حاليًا التسوية مع الغرب - وكذلك مع الولايات المتحدة، التي يثقل حصارها على الاقتصاد - بمثابة هدف حيوي واستراتيجي لجمهورية إيران الإسلامية. لذا فهي تتجاوز كل حد في لعبة السلاح النووي: لكي تسترد اعتبارها على الساحة الدولية في النهاية.

تحول النذل إلى شريك

وماذا يفعل الأوروبيون؟ إنهم يتابعون الحكام في طهران مثلما يتابع الحمار الجزرة المرفوعة أمام فمه. في حال تنازل إيران عن تصنيع القنبلة النووية، ستغريها أوربا بتعاون سياسي واقتصادي وتقني وثيق. ولأن طهران تقدّر حقيقة مخاوف الغرب من قنبلة نووية إيرانية حق تقدير، فهي تساوم على الثمن، وذلك من خلال لعبها المرة تلو الأخرى ورقة تخصيب اليورانيوم أو مسألة أخرى.

والآن يتضح المكسب الذي تريد طهران تحقيقه في النهاية: يجب على الولايات المتحدة أيضًا أن توافق على صفقة ضمان أمن النظام ورفع كل العقوبات - لهذا تتوسل أوروبا للأمريكان أن لا يقوموا بإعاقة حل المفاوضات - والنتيجة: عدم الاعتراض على تسامح دول المجموعة الأوروبية تجاه إيران.

لا يتطرق أحد في أوروبا إلى موضوع نشر الديموقراطية في إيران، أو حتى إلى تغيير النظام. كما تفضّل أوروبا نموذج القذافي: تحوّل النذل إلى شريك. ويبدو أن أوروبا لا تتذكر قيم مثل العلمانية أو المساواة أو حقوق الإنسان، إلاّ عندما تعلن الأقلية المسلمة في أوروبا على أنها تشكل خطرًا على التنوير.

وفي التعامل مع الحكام المستبدين المسلمين يتلاشى كل الشغف في التبشير. فالسياسة الواقعية يجب أن تكون متسامحة مع عقوبات الرجم أيضًا.

مصالح لا غير

لقد أدرك في أمريكيا المحافظون الجدد، أن السياسة المعنية فقط بمصالحها الخاصة، تعود على ساستها بالخسائر، إذا كانت تحدد المصلحة لفترة قصيرة جدًا. من المؤكد أن الولايات المتحدة لم تقلب نظام صدام حسين من باب محبة الناس.

وكذلك لا تنم المطالب في نشر الديموقراطية في إيران عن محبة مفاجئة للشعب، الذي عانى مثل شعوب أخرى قليلة من السياسة الخارجية الأمريكية: من الانقلاب الذي قام به مكتب الاستخبارات المركزية CIA الأمريكي ضد رئيس الوزراء المنتخب محمد مصدق عام ١٩٥٣، إلى دعم العراق في اعتدائها على إيران عام ١٩٨٠، حتى إسقاطها طائرة الركاب الإيرانية التي كانت مليئة بالركاب عام ١٩٨٨.

فالمسألة مسألة مصالح. كيف يمكن أن يكون الأمر مختلفًا في السياسة العالمية؟

معظم الإيرانيين يظهرون تفهما أكبر تجاه المشروع الأمريكي لإعادة تنظيم الشرق الأدنى وليس لسياسة الأوروبيين التي تدّعي محبتها للآخرين. في هذه السياسة يعود على وجه التحديد مارد ساهم مساهمة حازمة في التدمير والخراب في الشرق الأدنى؛ هذا الخراب الذي يهدد أيضًا الأمن في الغرب في يومنا هذا:

هذا النذل ليس نذلاً، لأنه يتعامل معي. فمن لا يتمسك بأقل القيم المشتركة ويكون مستعدًا للاتفاق حتى مع المخلوقات السياسية الأكثر ظلامًا، لا يحتاج لأن يتعجب، إذا تحركت هذه المخلوقات في يوم ما ضد من يحسن إليها. فمن ليس لديه أخلاق، لا يحتاج أن يترجاها من الأنذال قط.

التحرر ليس خطأً

في أسوء حال سيحظى الأوروبيون بالنجاح. إذ سيقدم الإيرانيون الضمان المطلوب (وسيحاولون في الخفاء الاستمرار في تصنيع القنبلة النووية). ولهذا ستُضم إيران إلى نادي الدول الحسنة، كذلك سيوافق الأمريكيون، وسيستقر النظام وسيجلس في ثبات على سرج الحكم أكثر مما كان في العقود الخالية.

وفي البدء سيكون الأغبياء هم الإيرانيين. لكن على المدى الطويل يمكن أن يظهر من جديد، كم هي خطرة على وجه الدقة حقيقة سياسة الأمن هذه. كذلك لا يمكن لوضع إيران الحالي أن يحافظ على بقائه حتى بالإسمنت الأوروبي.

كما لن يكون في إيران استقرار من دون تحرر سياسي. لقد كانت إصلاحات خاتمي بمثابة محاولة لتغيير النظام من الداخل، من أجل إنقاذه. وقد فشلت المحاولة، وبهذا فشل النظام أيضًا. والإيرانيون لن ينسوا من هو الذي تمسك بذلك حتى النهاية. فالحرب هي الوسيلة الخاطئة.

لكن التحرير ليس الهدف الخاطئ. وبالتأكيد نحن بحاجة للصبر، من أجل تغيير الأوضاع في طهران. كما لن يكون الهجوم على إيران تصرفًا معيبًا فحسب نظرا إلى التسلّح الإيراني. لكن على خلاف عراق صدام حسين فقد تكوّن في إيران وعي ديموقراطي شامل.

ففي الجامعات ومعاهد التعليم العالي الدينية تخاض مناقشات أعمق بكثير مما هو الحال في الدول العربية التي لها توجهات غربية. حتى وإن كانت الخطوات لا تزال صغيرة، فإنها ستقود المجتمع الإيراني إلى غاية التحرر. إذ لا يجب على هذا المجتمع إلاّ أن يستعيد تأثيره على السياسية.

إيران مجبرة على تقديم تنازلات

لهذا ستحقق إيران الكثير، إذا تواصل العمل في تلك الإصلاحات، التي حصلت على أغلبية سياسية ساحقة؛ وإذا طبّقت تلك القوانين التي تسري في إيران بعينها؛ إذا تم السماح من جديد بإصدار الصحف التي لازالت مكاتب تحريرها موجودة؛ إذا سمح مجلس الرقباء لمرشحين مستقلين بالترشح في انتخابات الرئاسة المنتظرة. وهذه الانفتاحات ذات التأثيرات الخفيفة ستضعف النظام على المدى المتوسط - حيث يتكفل بذلك الضغط الداخلي.

استطاع النظام في العقدين الأخيرين أن يصمد في مواجهته للولايات المتحدة، وذلك لأن العلاقات مع أوروبا كانت تقدم بديلاً. ولكن إذا قام الأوروبيون والأمريكيون بوضع مسألة الأمن في السياق السياسي وبطرح مسألة نشر الديمقراطية بشكل تدريجي في البلاد في صلب السياسة الإيرانية المشتركة، فسيجبر النظام في طهران على تقديم التنازلات.

فلدى إيران قابلية أكثر واقعية لتحول بطيء لكن على أي حال مسالم أكثر من عراق صدام حسين أو سورية أو كوريا الشمالية. فيجب على أوروبا على الأقل، التي تلعب دورا سياسيا فاعلا على المسرح الدولي، أن لا تضع العراقيل في هذا الطريق. وإلاّ فمن الممكن أن يتمنى بعض الإيرانيين أن لا تمد أوروبا يدها على الإطلاق!

بقلم نفيد كرماني.
حقوق الطبع صحيفة زود دويتشه تسايتونغ 2005
ترجمة رائد الباش

نفيد كرماني كاتب وصحفي من أصل إيراني مقيم في مدينة كولونيا.

قنطرة
مأزق المعارضة الإيرانية
"ثورة مخملية" بحاجة إلى بدائل سياسة قادرة على استيعاب تأييد مختلف فئات الشعب، وتحتاج أيضا إلى حكومة لا تريد استعمال العنف. ومثل هذه البدائل لا توجد في إيران حاليا، حسب رأي الكاتب فرج سركوهي، الذي يقدم تحليلا لمشهد المعارضة الإيرانية.
إيران والاتحاد الأوربي
بينما تسيطر الآن حالة من الهدوء على العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران نجد الأوربيين يسعون للتفاوض مع جمهورية إيران الإسلامية. ولكن إلى أي مدى ستنجح المساعي الأوربية في إقناع رجال الدين الإيرانيين بالتنازل في النزاع حول الملف النووي؟